النفاق السياسي .. لماذا؟

نجاة فخري مرسي

هبّت علينا اخبار اغتيال رئيس وزراء اسرائيل اسحاق رابين كالعاصفة. فأفردت لها وسائل الاعلام العالمي – المملوك أكثره لليهود الساعات الطويلة. ووصفه بعضها بأنه أعظم رجل في العالم، ومنها من قال انه شهيد السلام. فتبعتها بعض اذاعاتنا العربية في استراليا مرددة كل شاردة وواردة مما قالته الاذاعات العالمية.
أنا أرى ان النفاق السياسي العربي سيساعد الغرب واعلامه على جعل اسحاق رابين اسطورة سلام، وأرى انه لا داعي الى اخفاء مشاعرنا في مثل هذه المناسبات لأن الكل يعلم حقيقتها تجاه قاتل اهلنا واطفالنا ومدمّر ديارنا.
وكابنة لجنوب لبنان – الارض المحروقة – لا استطيع ان انضم الى معسكر النفاق، لان جميع الشرائع السماوية تقول ان القاتل يُقتل، و "بشّر القاتل بالقتل ولو بعد حين". واسحاق رابين في عنقه مئات بل الاف القتلى من الشيوخ والنساء والاطفال الابرياء، كانت طائراته وصواريخه تدك قرى الجنوب في لبنان وتصبّ الحمم على رؤوس الجنوبيين في نفس اليوم الذي اغتيل فيه. ومن يرى غير ذلك فليسأل غزة، وليسأل كل قرية في جنوب لبنان. ويسأل الصيادين في صيدا وصور، ويسأل مياتم الاطفال في الجنوب ثم يسأل نفسه من كان يأمر بقتل وكسر عظام اطفال الانتفاضة؟ من ملأ سجون اسرائيل بالشباب الفلسطيني واللبناني واذاقهم مر العذاب؟ من أمر بالعقاب الجماعي ونسف بيوت من يُشك بأمرهم؟ من استمر في بناء المستعمرات على اراضي الشعب الفلسطيني المشرّد؟ من سمح بتسليح سكان المستعمرات لقتل المصلين في المساجد؟ من أمر بخطف الشيخ عبيد وغيره؟ ومن أمر باغتيال القائد يحي الشقاقي؟
اليس هو نفس اسحاق رابين الذي صمم مسرحية السلام المزعوم بمساعدة صديقه الدامع الحنون كلينتون؟ اليس هو اسحاق رابين الذي اعلن مؤخراً – ومسرحية السلام لا تزال تعرض فصولها – ان مدينة القدس عاصمة اسرائيل الابدية؟
ان ما اسمياه كلينتون ورابين بالسلام، لم يعد يخفى على احد وما هو سوى خطة استعمارية ذكية للسيطرة على المنطقة اقتصاديا، لتحقيق خريطة اسرائيل من الفرات حتى النيل بالاستعمار الاقتصادي الحديث، بعد ان صعب تحقيقها باسلوب الاستعمار العسكري التقليدي.
وبعد فهل يُعقل يا سادة ان يسمى من فعل كل هذا، رجل سلام؟ أو لعلها لغة النظام العالمي الجديد، ونحن لا نفهمها، وما علينا سوى ان نتجرّع سمومها وننافق.

ولأنني لا أحب النفاق، فاعذروني.


امرأة انسانة

نجاة فخري مرسي
بمناسبة عيد الام بحثت في ذاكرتي وفي أوراقي عن موضوع نسائي يتناسب مع هذه المناسبة فوجدت موضوع لقائي مع السيدة نازك الحريري اثناء زيارتي الاخيرة لمصر ولبنان وهي اللبنانية التي عرفت مشاعر الامومة الوطنية لما تتمتع به من امكانات مالية واجتماعية ووطنية.
كنت قد حققت هذا الموضوع بانتظار الوقت المناسب لنشره بعيدا عن السياسة اللبنانية المعروفة بخلط الاوراق.
وأظن انني قد وجدت المناسبة الان كي اقدم لكم ولكن هذه السيدة الكريمة وأم الايتام والمعوقين والمكفوفين في غرب بيروت.
ومن غير الامهات يضمد جراح الاخوة والابناء عندما يفقدون صوابهم ويرجمون اوطانهم.
أثناء زيارتي الاخيرة الى مصر ولبنان اقامت السفارة اللبنانية حفل استقبال لرئيس الوزراء الذي زار مصر لعمل اتفاقيات وتوطيد العلاقات بين البلدين وفي حفل الكوكتيل الخاص الذي اقامته حرم سفيرنا في القاهرة السيدة دمشقية التقيت بالسيدة نازك الحريري حرم رئيس الوزراء مع مجموعة كبيرة من سيدات المجتمع مصريات ولبنانيات اعلاميات ودبلوماسيات وسيدات اعمال.
كانت تتحدث مع الجميع والابتسامة لا تفارق ثغرها الجميل، وعندما تحدثت معها وجدت فيها المرأة الانسانة التي لا يهمها كثيرا حب الظهور، ولا تظهر على المسارح الخطابية او تزايد على المراكز، كما يفعل غيرها من نساء ورجال المؤسسات السياسية والاجتماعية في بلادنا بل اتجهت الى ما تؤمن به من عمل الخير ومساعدة المحتاجين والمعوقين من ضحايا الحرب الاهلية البغيضة في وطنها. تلك الحرب لم تحقق سوى عكس ما يرجوه ويتمناه المواطن المخلص المسالم.
وبعد حديث سريع ابتسمت وقالت: دعينا يا عزيزتي نتحدث الان ونتعارف واخبريني اكثر عن حياتكم في استراليا اما عن شخصي وعن نشاطي الخاص فسيصلك بعد عودتك وعودتنا الى بيروت مع رسول خاص. ثم أومأت الى المصور بأن يأخذ لنا صورة معا كما اوكلت الى أحد الاعلاميين المرافقين بأن يأخذ عنواني ويتكفل بالباقي.
صراحة اعتقدت في حينه انها ربما تكون حركة من زوجة سياسي تريد ان تنهي اللقاء مع اعلامية فضولية ولكنني عندما عدت الى بيروت وجدت الصور مطبوعة عن سيرة السيدة الحريري بانتظاري ووصلتني جميعها مع رسول خاص حسب الوعد فكذبت بذلك ظنوني.
والذي اريد ان اقوله الان انني رجعت من لبنان لأجد صحافتنا اللبنانية المهجرية لا حديث لها سوى مهاجمة رئيس الوزراء الحريري الذي هو زوجها ووصفه بما لم يوصف به رئيس وزراء من قبل.
فآثرت الانتظار الى أن اجد فسحة زمنية تبعد ما بين سياسة الرجال وانسانية نازك الحريري ذات المشاريع الانسانية المعروفة ذلك لأنني لم أعوّد قلمي "العتيق" على مهاجمة الانظمة ولا على مديحها وافضل ان نساعد لبناننا على النهوض من كبوته وكفانا وكفاه ما اصابه واصابنا من لعبة شد الحبال والحروب الاهلية التي لم تحقق سوى الخراب وتكريس الطائفية اكثر واكثر هذا علاوة على انها دفعت بالالاف من المثقفين الى الهرب من جحيم المنازعات الى كل ركن من اركان العالم علاوة على ما ازهقت من ارواح. وما تركت وراءها من مقعدين ومعوقين ومتسولين ومن موتورين ومرضى النفوس.
ولا عودت قلمي على ان يصب البنزين فوق النار ليزيدها اشتعالا لصالح احد. وتهمني خدمة الصالح العام والسلام والاصلاح الاجتماعي والبحث عن الطاقات النسائية الانسانية الفاعلة في عالمنا العربي. وافضل ان نبحث شمعة تضيء حياتنا قبل ان نلعن الظلام او نعيشه دائما.
لذلك قدمت في الحلقة الماضية نبذة عن السيدة نازك الحريري بعيداً بعيداً عن السياسة اللبنانية وتحدثت عن الجانب الانساني في حياتها وبلغة الارقام لان الارقام لغة الاقناع وهي التي تتحدث عن نفسها .


نشاطات السيدة نازك رفيق الحريري الانسانية والتربوية والثقافية

نجاة فخري مرسي
من الأرشيف
شخصية نسائية من لبنان

تعتبر حالات الاعاقة الجسدية والتخلف العقلي، الى جانب رعاية الأيتام والمسنّين، من أهم القضايا الانسانية التي يتوجب على القادرين من دول وحكومات ومؤسسات وأفراد كافة الاهتمام بها، وإيجاد الرعاية والأمكنة الكفيلة بمعالجتهم وايوائهم. من هنا كان اهتمام السيدة نازك رفيق الحريري يتركز أساساً على رعاية واحتضان هذه الحالات الانسانية، وأنشأت لهذه الغاية مؤسسات تعنى بالمعاقين والمتخلفين عقلياً والأيتام في لبنان والعالم العربي، الى جانب اشرافها الدائم على مؤسسات الحريري التربوية والصحية. ويأتي في مقدمات هذه المؤسسات مركز نازك الحريري للتربية الخاصة الذي انشئ في عمان لتقديم الخدمات الشاملة والمتكاملة للمعوقين عقليا، من حيث إعداد برامج التدريب والتعليم والتأهيل المهني والاجتماعي، ومن حيث توفير الخدمات التدريبية والتوعية لأهالي المعوقين الذين لم تتح الظروف لأطفالهم للإلتحاق بمراكز او مؤسسات للتربية الخاصة. وكذلك توفير التدريب للعاملين مع المعوقين سواء كانوا من الاردن او من الاقطار العربية الشقيقة من خلال عقد الدورات المتخصصة في هذا المجال.
والى جانب اهتمام السيدة نازك الحريري بالحالات الانسانية عبر مؤسساتها الاجتماعية، فهي تقود حاليا واحدة من اهم المؤسسات التربوية في العالم: "مؤسسة الحريري" التي انشئت في العام 1979 في مدينة صيدا لتتوسع لاحقا في العام 1983 وتشمل بيروت والمناطق اللبنانية كافة، لتؤدي رسالة ثقافية وتربوية شاملة افتقر اليها لبنان منذ مطلع الاستقلال، على قاعدة انها مؤسسة ثقافية علمية تمنح قروضا مالية للطلاب الراغبين في تكملة دراساتهم الجامعية والذين تحول ظروفهم المادية دون تمكنهم من ذلك، وتسعى لنشر العلم والمعرفة في اوساط المجتمع اللبناني بمختلف فئاته وطوائفه.
أما في مجال الخدمات الطبية والاجتماعية، فقد ساهمت السيدة نازك الحريري بدعم المستشفيات عن طريق تقديم اموال نقدية وأجهزة طبية، وبتقديم مساعدات لمرضى الحالات الصعبة من عمليات القلب المفتوح وزرع الكلى وزرع القرنيات.. الخ.
كما قدمت السيدة نازك الحريري مساعدات الى مئات العائلات الفقيرة التي يعاني احد افرادها من مرض مزمن.
واضافة الى المساعدات الفردية، فقد كان للسيدة الحريري اهتماما خاصا برعاية مراكز المسنين والأيتام والمؤسسات الاجتماعية من معاقين ومتخلفين عقليا عن طريق تقديم المساعدات المادية والعينية، الى القيام بزيارات تفقدية دائمة لها.
وكان للسيدة الحريري لفتة كريمة تجاه المعوقين في لبنان بتبرعها بمبلغ تسعة ملايين دولار ونصف لاقامة مجمع مساحته 30 الف متر مربع في جنوبي بيروت وتجهيزه ليخدم حوالي الالف معاق من مختلف الحالات بدءا من التخلف العقلي والاعاقة الجسدية، والصمّ والبكم والمكفوفين، الى رعاية الأيتام.
وعهدت السيدة الحريري لمؤسسات الرعاية الاجتماعية وهي من كبريات المؤسسات في لبنان، ادارة وتشغيل هذا المجمع، نظرا لما تتمتع به هذه المؤسسات من خبرة طويلة فاقت الخمسة وسبعين عاما في مجال الخدمات الانسانية.
وإدراكا لأهمية المراحل التعليمية من ابتدائية ومتوسطة وثانوية في تنمية وتأسيس الطلبة واعدادهم اعدادا صحيحا لبلوغ المرحلة الجامعية، وتمكينهم من الالتحاق بأرقى الجامعات العربية والاجنبية، عمدت السيدة نازك الحريري الى إنشاء مدارس في كل من السعودية ولبنان، أبرزها: مدارس نجد الاهلية في الرياض، وثانوية الحريري الثانية وثانوية عبد القادر في بيروت.
ولم يغب عن بال السيدة الحريري العامل الثقافي واهميته في المجتمع عامة، وفي المجتمع اللبناني خاصة، لادراكها بأن لبيروت دورا ثقافيا يتوجب استعادته، فكان قرارها بانشاء جمعية مهرجانات بيروت.
وحددت السيدة الحريري اهداف هذه الجمعية بابراز وجه بيروت التاريخي والحضاري والثقافي، والعناية بالفنون المسرحية والموسيقية والغنائية، والاسهام في التنمية الثقافية والاجتماعية لمدينة بيروت.
وكانت باكورة الحفلات للسيدة فيروز ليل السابع عشر من ايلول 1994 بحضور 50 الف شخص جمعتهم في ساحة الشهداء، في بيروت للمرة الاولى منذ نشوب الحرب، كما ارادت السيدة الحريري دليلا على عودة اللحمة بين ابناء الوطن الواحد الذين فرقتهم الحرب والبغضاء دون ارادتهم، وجاءت بمثابة الاعلان عن قيامة بيروت وعودة الروح اليها.

كيف استطاع كمال جنبلاط ان يوفق بين اشتراكية الشعوبية وزعامة عائلته الجنبلاطية

نجاة فخري مرسي
من الأرشيف
اسعدتني ادارة جريدة النهار الغرّاء باشراكي في ملحقها الخاص بمناسبة مرور عشرين سنة على غياب كمال جنبلاط. فقمت بتصفح كل ما كتبت عنه بمناسبة ذكرى استشهاده عام 1981. وما كتبت عنه في برنامجي الصحافي "شخصية من بلادي" في نهار ملبورن عام 1982. وقرأت أكثر ما وصلت اليه يدي من مؤلفاته، وما قال، وما قيل فيه، فلم أجد ثغرة أدخل منها، دون أن تكون مسبوقة او مكررة، لأن الكمّ الهائل الذي كتب عن شخصيته السياسية والفلسفية والفكرية عموما، وبالتالي عن نضاله واستشهاده، كثير، وكثير جدا.
وجدت ان الجانب الفكري والانساني من حياته ينبوع لا ينضب، وهو الغائب الحاضر، وحضوره في وطنه وفي نفوس محبيه يتجدد كلما عزّت المواقف المصيرية.
شعرت انني وبأقل قدر من التردد، استطيع ان اضع اسمه على قائمة كبار القادة والساسة في العصر الحديث، بما فيها شخصية المناضل المهاتما غاندي، في اكاديميته التي سخّرها لخدمة بلاده.. في تنسكه.. في حبّه لاوطانه ومواطنيه، في تضحياته، في ثورته البيضاء لتحرير بلاده، وبالتالي في شهادته واستشهاده، حيث دفع حياته الثمينة ثمنا لصموده، ونزاهته، ونظافة يده. فوجدت ان "ناسكنا"، ومفكرنا، وشهيدنا، الاستاذ كمال جنبلاط وإن يكن لم تمهله المنية كي يحقق ثورته الحضارية الا انه قد أضاف على كل هذا انتاجه الفكري، حيث "ألف العديد من الكتب السياسية والاجتماعية والفلسفية، التي بلغ عددها أكثر من عشرين مؤلفا، كما ترك ما لايقل عن 3 الاف افتتاحية، وعدة طروحات اكاديمية" (1).
نعم لقد كنا وكان لبنان دائما بحاجة ماسة الى ثورة حضارية بيضاء، تحرّره من أمراض الاقطاعية، والطائفية، والمحسوبيات، والزعامات الموروثة أباً عن جد. ولكنها وللأسف كانت ثورة حمراء نادى رجالاتها بشعارات الدم والتفرقة المذهبية، ثورة حصدت من أرواح غالية ومن دمار عمران، السلام والتعايش السلمي الى سنين قادمة، وربما طويلة.
وهكذا تفجع الاوطان المنكوبة بخيرة رجالها، وهكذا تفجع الحركات التحررية دائما بوجود الرصاصة الغادرة، كالتي أصابت غاندي في الهند.. ومارتن لوثر كينغ في امريكا.. وكمال جنبلاط في لبنان.
واذا رجعنا قليلا الى سيرة "الغائب الحاضر" كمال جنبلاط، نجد اننا امام علامة استفهام حول شخصيته المميزة، وكيف استطاع ان يوفق بين اشتراكيته الشعوبية، وزعامة أسرته الجنبلاطية؟ التي اعدته لأن يكون زعيما سياسيا، وممثلا لطائفة تحلف بحياة رأسه، ثم وجدت انه على الرغم من نشأته في الاجواء العريقة المترفة أباً عن جد.. وعلى الرغم من وجوده في وطن باتت فيه السياسة تباع وتشترى، ويتوارثها الابناء عن الاباء، والاحفاد عن الاجداد.. وعلى الرغم من كل هذه المؤثرات الطبقية والطائفية، فقد استطاع ان يحتفظ بجوهره المتميز، ويبلور ميوله الاشتراكية والانسانية، ثم يعمل على تأسيس حزب تقدمي اشتراكي يصيغ دستوره بيده.. وجبهة وطنية.. ويترأس جبهة نضال برلمانية.. ثم يقف ضد مشاريع الاحلاف التي تتعارض مع عروبة لبنان، كما وتشغله القضايا المصيرية وفي مقدمتها قضية الشعب الفلسطيني.
تحدّث في مقدمة كتابه "حقيقة الثورة اللبنانية" عن الدوافع الحقيقية لانتفاضة عام 1985، في لبنان، وعن قصص الفساد والافساد بأسلوب جريء تستشف منه هواجسه الوطنية والسياسية.. ونظرته.

(1) – من كتاب "هذه وصيتي"

ذكرى مذبحة قانا ليست بحاجة الى المهرجانات الخطابية

نجاة فخري مرسي
من الأرشيف

تكرّمت الفعاليات في جاليتنا العربية، وتسابقت في الدعوة الى الاحتفالات الخطابية لاحياء الذكرى الاولى لمذبحة قانا.
وهذا أمر لم نفاجأ به، وان كنا نأسف له، لأن ذكرى مجازر الابرياء بالمفهوم الشعوبي الحضاري المتبع، لا تنفع فيه الخطابات الحماسية في الصالات. ومن هذا المفهوم نجد أن مذبحة قانا تحتاج منا في استراليا الى مظاهرات تنديد، وملصقات تذكير.. وتحتاج الى اعتصامات امام سفارات اميركا واسرائيل، لتعريف الرأي العام على حقيقة صدقية اسرائيل مع سكان الجنوب الابرياء.
إحياء ذكرى مذبحة قانا يحتاج منا الى ارسال البرقيات للمنظمات الانسانية وحقوق الانسان.. الى مطالبة المنظمة الدولية ومجلس امنها بقرارات تدين اسرائيل وتلزمها بدفع التعويضات المالية الى عائلات الشهداء، وكل من تضرر وتشرد وهدمت دياره، واحرقت محاصيله بسبب غارات اسرائيل وعدوانها المتكرر.
هذا لا يعني طبعا، اننا لا نقدر المشاعر الوطنية النبيلة عند من دعوا ومن لبوا الدعوة لاحياء الذكرى الاليمة، وإنما كل ما نعنيه ان نعلم ان اسلوبنا في معالجة مآسينا وأمورنا المصيرية مع دويلة الموت والدمار، قد أصبح مكرراً وعقيماً، لان الخطابات الحماسية والمقالات العاطفية التي نجابه بها عدواً بخطورة اسرائيل وامكاناتها الحربية لا تجدي نفعا، ولا تغير واقعا، بدليل انها لم تتمكن من ايقاف تنفيذ "وعد بلفور" ولا تمكنت من تحرير فلسطين.. ولا استطاعت ان تمنع اعتداء اسرائيل على المقدسات، أو مصادرة الاراضي او بناء المستعمرات، أو، أو.. ولا حتى تمكنت من حماية الجنوب، او انهاء مأساة مخيمات التعذيب الاسرائيلية النازية في بلدة "الخيام" وفي "انصار" وفي "عدلون" حين يُزج فيها الشباب الجنوبي لعشرات السنين دون محاكمة.
وهنا نجد انفسنا امام مهزلة مستعصية وامام خطأ لا يغتفر.
لو حاولنا ان ننظر الى عدونا ونأخذ منه العبرة، كيف سخر اعلامه المرئي والمسموع والمقروء، لمدة نصف قرن من الزمن، في تضخيم مأساته مع المانيا النازية لتذكير الرأي العام العالمي كل يوم، وكل ساعة، وكل دقيقة، بمذبحة اليهود في المانيا، الى أن كسب عطف العالم ووصم المانيا والشعب الالماني بجرائم الحرب، واشعرهم بعقدة الذنب، وابتز اموال الملايين.
بل واكثر من هذا فهو ما زال حتى يومنا هذا يلاحق كل مسؤول الماني ما يزال على قيد الحياة ليحاكمه دوليا، بعد نصف قرن (مع أن الاحكام القضائية – حسب معلوماتنا- تسقط بعد مرور خمسة عشر عاما على صدورها، في اكثر الحالات)، وكأن مذبحة اليهود في المانيا كانت المذبحة الاولى والاخيرة في تاريخ البشرية الحافل بالمذابح والمجازر.
ونحن نبقى بكل اسف لا نعرف سوى اسلوب الخطابات الحماسية والمقالات العاطفية. دعونا نسأل أنفسنا مثلا، وبكل تواضع وموضوعية، لماذا لا نحيي ذكرى مذابحنا باعمال مجدية كأن نفكر ونتعاون على إحضار مُقعد أو مشوّه من ضحايا المذبحة، لنعالجه ونستفيد من وجوده دعائيا.
أو لماذا لا نفكر ونتعاون على احضار طفل يتيم ممن يتمتهم غارات اسرائيل على الجنوب لنعلمه ونهبه الحياة، ويكون شاهدا حيا في استراليا على اجرام النازية الحديثة في جنوب لبنان.
أو أن تكون هديتنا لقانا وشهداء قانا تسوير المقبرة، أو تجميل محيطها بعد ان اصبحت مزارا دوليا واعلاميا.. أو أن نتعاون ونتساعد على الحاقها بمتحف تحفظ فيه صور المذبحة وتاريخ حدوثها، وكل مؤثراتها ومضاعفاتها، وكل ما انتجته من مشاعر اللحظة الرهيبة على الاحياء من اترابهم، من كتب تسجيلية.. وقصائد شعرية وتعليقات صحافية محلية ودولية، ليكون هذا المتحف بداية جديدة لأسلوب جديد، ومدخلا تاريخيا وحضاريا متواضعا لادانة اسرائيل وحفظ تاريخها الاسود في الجنوب اللبناني.
وصدقوني انه لمن العار ان نعتقد بان واجباتنا تجاه مآسينا وامورنا المصيرية تنتهي عند احياء الذكرى بالاسلوب العاطفي المتكرر والعقيم، وان نترك العدو الاسرائيلي يبني المفاعلات الذرية التي تهدد وجودنا، ويحاربنا بالقنابل والطائرات، ونحن نحاربه بالكلام والخطابات.
واخيرا تحية من القلب لكل من نفذ عملا، او انتج فيلما او عرض مسرحية في لبنان، وتحية خاصة للبرنامج العربي في محطة اس بي اس للبث الاثني في استراليا، على البرنامج الموضوعي الناجح الذي قدّم بمناسبة الذكرى الاولى لمذبحة قانا والذي نتمنى لو انه يوثق بالعربية والانكليزية ويهدى الى قانا، بعد عرضه في استراليا، (لعل وعسى يصبح لمقبرة الشهداء في قانا ذلك المتحف الذي اقترحناه، فيحفظ فيه).