نجاة فخري مرسي
في القرن التاسع عشر، مثلاً، أفردت دائرة المعارف البريطانية للراهبة الانجلوسكسونية "هورسيفيا" ضعف المساحة التي أفردتها لعبد الرحمن الثالث، الذي أصبحت قرطبة في ظله أكبر المدن الثقافية في أوروبا (وقد وصفتها الراهبة هورسيفيا نفسها بأنها جوهرة العالم).
كما أن تاريخ العصور الوسطى لكامبردج الذي ضمّ خمسة آلاف صفحة لم يعط للحضارة العربية في اسبانيا سوى خمسين صفحة.
كما أن المؤلف الأمريكي"جايمس هارفي روبنسون" صاحب الكتاب الدراسي النمطي لعدة عقود، والذي تناول العصور الوسطى والحديثة، قد خصص عشر صفحات فقط للنهضة الاسلامية. ثم يستطرد قائلاً:
"وهذا قد أنتج أيضاً "سير كنت كلارك" هيئة الاذاعة البريطانية في عام 1969 سلسلة تلفزيونية كاملة، وكتاباً عن "الحضارة" من دون أن يلاحظ أن هنالك شيئاً من الحضارة فيما وراء الغرب.
وحتى في وقتنا هذا فإن قلة فقط من الباحثين والمعلقين الغربيين تعترف بالدور الثقافي العربي والاسلامي آنف الذكر.
وفي باب "الانتحال عن طريق الترجمة" في نفس الكتاب "الغرب والاسلام" نجد ملاحظة لأكاديمي هولندي تقول: "لاشك في أن حقيقة الاسلام العربي والاسلامي في التقدم الفلسفي والعلمي العربي، كان يجب ترجمته قبل أن يصبح استخدامه ممكناً، لأن عملية إخفاء المصدر، وترجمة أسماء العلماء العرب الكبار بشيء من التحريف الى اللغات اللاتينية والأوروبية المستفيدة منها، قد سهلت هذا الإنتحال الثقافي الهائل، لأن تعلم اللغة العربية في ذاتها كان مكروهاً، في مختلف أنحاء الغرب وكانوا يقولون: إنها ليست جديرة بعناء التعرّض لمثل هذا الجهد والتعب لمجرّد الاطلاع على احلام وأوهام المهووسين" (وهو يعني العباقرة العرب والاسلام).
إذاً فإننا نرى أن الزمن يسير بدون توقف، وأن الحضارات تستمر وتتفاعل مع سابقاتها في مجالات العلم والأدب والفلسفة، وباعتراف الحاضر بالماضي، تأكيد على أهمية التفاعل الحضاري والعلمي عند الشعوب.
بهذه الإمكانات المحدودة، والتعتيم المذكور قررت أن أقوم بإعداد كتاب جامع باللغتين العربية والانجليزية يحتوي على معلومات كافية عن العبقريات العربية/الاسلامية، وايضاً الغربية، يوفرها للقارئ العربي المقيم، كما للمغترب في البلاد الناطقة باللغة الانجليزية، بخاصة لأجيالنا الجديدة التي ولدت في المغتربات وفقدت لغتها الأم، فأكون بذلك قد قدمت للمجتمع فكرة عن تراثنا، وعن حضارتنا التي تفاعلت مع سابقاتها، ومعاصراتها من الحضارات، والتي مهدت السبل للاحقاتها، فكانت بمثابة الأسس والقواعد، وهي تحاول النهوض في أوروبة وغيرها.
اخترت أن يكون إسم الكتاب: "عباقرة من التاريخ" وأن تكون أبوابه خمسة:
1- أقدم العباقرة (العدد ستة)
2- عباقرة من الشرق (العدد عشرون)
3- عبقريات من الشرق مختصرة (العدد 14)
4- عباقرة من الغرب (العدد 52)
5- عبقريات من الغرب مختصرة (العدد أربعة)
فبلغ عدد صفحاته 224 صفحة.
وعندما بدأت أجول في بطون الكتب، ودوائر المعارف بحثاً عن المراجع
الموثقة بدأت أكتشف مشكلة التعتيم، فقررت أن نسافر زوجي وأنا الى بلادنا العربية لأستعين بمكتبات الجامعات فيها لاستكمال ما ينقصني من معلومات عن العباقرة العرب/الاسلام خصوصاً، والقرار أن يكون باللغتين العربية والانجليزية، كما ذكرت،أنا أعدّ العربية وزوجي يعدّ الانجليزية لكل شخصية.
واكتمل الكتاب.. وطبع الكتاب في لبنان.. وكلف ما كلف من جهد ومال. فحملناه وعدنا الى استراليا بحوالي ألف نسخة، وعندي شعور بالانتصار على المصاعب كالذي بنى "القلعة" وبانتظار أن تتبناه وزارة التربية ليدرّس في أحد الفصول المدرسية.. وبأن كل قارئ عربي يدين هذا التعتيم على تراثنا سيسعده أن يقرأ هذا التوضيح، وهذه الأسماء التي نعتز بذكرها، وستسعده هذه الأضواء.. وبأن ندوات تراثية ستعقد لمناقشة أمر هذا التعتيم، وعمل شيء أي شيء لإنقاذ الموقف وبلادنا مليئة وزاخرة بالطاقات الاكاديمية، وأن، وأن، وأو، وأو يتهافتون على اقتنائه في مكتباتهم لتقرأه أجيالهم، وتعرف شيئاً عن تراثها المستهدف.
ولكن ما حصل، جعلني أستنتج عن يقين أن ما تعرّض له تراثنا من تعتيم وانتحال وتحوير كان وما زال بسبب إهمالنا، ولم يبق لنا في الاعلام الغربي سوى صفة "الارهاب".
أما عظمة قانون حمورابي.. وطب ابن سينا.. وأبو بكر الرازي.. وسقراط وابو قراط.. ومقدمة ابن خلدون.. وافلاطون وارستتطالس.. وابن الهيثم.. والبيروني.. وأبو العلاء المعري.. وابن باجه.. وابن رشد.. وابن الخازن.. وابن النفيس.. والطبري.. والاشعري.. وابن جابر.. وابن النديم.. والأصفهاني، وابن الاثير.. والانطالكي.. فقد طواهم التاريخ أو كاد، ولا ذكر لهم في مدارسنا أو في مجالسنا..
سامحنا الله.
ملبورن – استراليا في اوائل عام 2009