نجاة فخري مرسي
أكتب للكبار كما للصغار وأعي هموم الاغتراب عن الوطن...
عُرف قلم الأديبة اللبنانية الكبيرة املي نصر الله بالسلاسة ورقّة المشاعر، وأكبر دليل على ذلك كتابها "طيور أيلول". ومن أشهر ما كتبت كتاب "الاقلاع عكس الزمن" وهو كتاب يصوّر مأساة الهجرة اللبنانية، وحياة المهاجر اللبناني وهو يترك بلده الذي يحبه، وبيئته التي تعرف قدره، ويهاجر مضطراً، بعد أن يعجز وطنه عن توفير الحياة الكريمة له ولأسرته، ليبحث عن الرزق وعن المستقبل الأفضل، وأديبتنا قد اتحفت – الى جانب ذلك – المكتبات العربية بباقة من مؤلفاتها التي تعالج كل ما يحتاج الى علاج من مآسي الوطن ومشاكل الانسان اللبناني في الغربة وفي المجتمع وفي الاغتراب، وتتحدث عن الضغوط الاجتماعية ومشاكل المرأة بأسلوب سلس قلّ وندر، رافقها منذ أن كانت تعمل في الصحافة لمدة خمسة عشر عاماً. وقد بدأت مؤلفاتها تنتشر في الوطن العربي وفي مواطن الاغتراب اللبناني وترجم بعضها الى اللغات الاجنبية.
والاديبة املي نصر الله تعيّش القارئ على كتف الوادي، وقرب الشلال، وفي حقول التين والزيتون، وبين الثلوج في لبنان وكندا.. ووراء الابواب الحديدية في بيروت، وبين دوي القنابل، وفي سيناريوهات ومسرحيات من كل لون وشكل، ولكنها تحتفظ بأن تعرض هذه السيناريوهات من خلال مسارح الانسانية ضمن اهتمامات المواطن اللبناني ووطنه لبنان.
وفي لقائي مع الأديبة في القاهرة سنة 1992 دار بيننا الحديث التالي:
س: سيدة املي، لقد عرفتك من خلال بعض مؤلفاتك القيمة التي تصلنا الى استراليا، وعرفتك الجالية العربية أيضا من خلال الاحتفال بجائزة جبران الادبية العالمية التي منحتها لسيادتك رابطة إحياء التراث العربي لعام 1991، فماذا كان شعور الاديبة املي نصر الله وهي تتسلم الجائزة اللبنانية من إحدى الجاليات اللبنانية في الاغتراب.
ج: يسعدني جدا أن أعرف، بأن الجالية العربية في استراليا لها هذا الاهتمام الادبي الحضاري. إذ اعتدنا فكرة أن المهاجر يشغل الناس بهموم العمل، التجارة، الصناعة وشتى الاعمال التي تخطف المرء من كل شأن ليست له علاقة مباشرة بالتيار الذي، لقوته وإلحاحه، يجرف الجميع.
وقد تأثرت شديد التأثر حين علمت بنبأ منحي جائزة جبران العالمية، وهو من الكتاب الذين أحبهم، وأعود الى قراءته مثلما يعود الظامئ الى الينبوع النقي، أو مثلما يعود المؤمن الى تلمس مكان يقدّسه. وثانياً لأنها الجائزة الأولى التي تأتيني من خارج لبنان، وفي ذلك إشارة الى توسع رقعة انتشار أدبنا في دنيا الاغتراب، ودليل وعي عام بين أهلنا في المغترب لأهمية الوجه الثقافي من تراثهم وحضارتهم.
ولا أفشي سراً إذا قلت بأن الكاتب، بينما ينصرف الى بناء قصته، أو قصيدته، في عزلة تامة، يفرحه أن يتلقه أصداء تعوده من شتى الجهات، حاملة التقدير لعمله، وفرحة المشاركة بولادة جديدة، وقد بلغت تلك العزلة أوجها إبّان الحرب الطويلة في لبنان، وتابعنا الكتابة، والشهادة لما يجري، دون أن يكون لنا أمل كبير بأن الصوت قد يتخطى سقوف الملاجئ التي تأوينا، واليوم بدأنا نحس بأن ذلك الإصرار على المضي في العمل بدأ يؤتي ثماره، ويلفت الانتباه. بل أن جزءاً منه بات أساساً لدراسات أكاديمية تنشر في الوطن العربي وخارجه.
س: وأشير بكثير من الفخر، الى أن، قلم المرأة كان متوهج الحضور واعياً تمام الوعي الدور المنوط به، والمسؤولية الملقاة على عاتقه.
ج: نعم، عشت ولا أزال أعيش هموم الاغتراب عن الوطن، وقد بدأت قصتى مع الهجرة والرحيل قبل أن أخطو أو خطوة خارج حدود القرية. ذلك لأنني فتحت عيني، في مجتمع اعتاد أهله على السفر.. فحين تروي الجدات حكاياتهن في ليالي الشتاء الطويلة، تكون الحكاية مضخمة بشذى العوالم الغامضة، وحين تعد الأم ابنها بوعود المستقبل المشرق، وتبسط بين كفيه علامات الغد، تشير بأصبعها نحو الأفق الغربي، حيث عبرت قبله قوافل الراحلين.
لكني ولأسباب فهتمها فيما بعد، نفرت من هجرة الوطن، وان بقيت تائقة الى نقلة تحملني الى المدينة الواعدة بمستقبل أفضل.
أما تلك الأسباب التي ولدت في نفسي ردود فعل سلبية تجاه المهجر، فهي الرسائل الواردة الى جو هادئ راكد هو جو القرية، فتهز جذوره بقسوة مشوبة بالغموض والرهبة.
كان لأنباء الموت أو المرض في الأماكن البعيدة أثرها العميق المؤلم، نقرأه في عيون الأمهات والآباء، ونسمعه في العويل اليائس العدمي، تنقله الرياح والعواصف، وتخبئه في عباب الأودية، ليرتد إلينا، في الليالي الكئيبة المظلمة، صرخات مرعبة تخترق حواسنا حتى أعماق الكيان.
هذه الصورة القاتمة، راحت تتوسع في ذهني، ولم تترك مكاناً لصور أخرى أكثر بهاء واشراقا، تحملها الرسائل عن نجاح الابناء في أعمالهم، في حياتهم العائلية، وفي انتصاراتهم، ربما، لهذا يغلف قصصي ورواياتي غلاف حزين. ربما لأني لم أعش فترة طويلة في الاغتراب، غلبني الارتداد الى المطارح المهجورة وبقايا احزانها.
وقد عدت الى موضوع الاغتراب في "الاقلاع عكس الزمن" وقد انقضى على معالجته في "طيور ايلول" قرابة العشرين سنة. ولم يعد الجو مسربلا بالشوق والحنين، بقدر ما هو غارق في آلام الحرب، محترق بلظى نيرانها، وبالطبع كنت قد سافرت وتعلمت عن احوال الغيّاب، ما لم يكن متوافرا لي حين كتبت الرواية الاولى. وتعلمت قسوة الزمن حين يجور على الانسان ويقتلعه من جذوره في خريف العمر، وفي حين يعد نفسه للراحة والنعاس الأخير، فوق صدر الأرض التي أرضعته خيراتها. وفي كلا الحالين، كان معيني، تجربة شخصية، تناغمت وتزامنت مع تجارب ألوف المواطنين الذين اضطروا الى النزوح عن أوطانهم، إما هرباً من خطر الموت، أو توقاً الى الانضمام الى أحباء أبعدتهم الحرب، ثم وضعت دون عودتهم شتى العقبات.
س: في كتابك "طيور أيلول" معالجة هادئة وعميقة لحياة المرأة اللبنانية في القرية الجنوبية، فهل انها في نظرك، أقل حظاً من المرأة اللبنانية في الوطن ككل؟ وما سبب تأثرك بها؟
ج: لم أقصد معالجة موضوع يخص امرأة بالذات، لا في الجنوب ولا في الشمال. لكني ولدت في قرية جنوبية (الكفير) ونشأت فيها نشأتي الأولى، وتشربت تراثها وتقاليدها، وعادات أهلها، فكان من الطبيعي، ان أكتب عنها، حين باشرت الكتابة، وفي يقيني، أن صورة هذه المرأة تتكرر في شتى القرى والبلدات الريفية، خصوصا في الفترة الزمنية التي اخترتها.
وان كان هناك من معاناة خاصة للمرأة الجنوبية، فهي في عيشها الدائم على خط النار، وعدم الاستقرار.
ورواية "طيور أيلول" لا تعالج هذه الحالة، بل تصفها في فترة زمنية تسوق فيها حياتها العادية التقليدية. وذلك انسجاماً مع الزمن الذي تدور الاحداث في حدوده.
س: في كتابك الأخير "خبزنا اليومي" صرخة ألم حادة من قلم تعوّد الرقة ورهافة العبارة، فهل كان هذا من فعل روائح البارود، ودوي القنابل، أم مجرّد تصوير لمأساة الانسان اللبناني التي بلغت الذروة، فأفقدته قيمه الاسنانية والحضارية؟
ج: إن تحوّلاً أكيداً حدث في سياق الكتابة الناتجة عن الحرب، نعم، هناك صرخات حادة، صرخات ألم، وغضب واحتجاج، وقد تفجرت في هذه القصص مثلما كانت تتفجر القذائف فوق رؤوسنا، بل تحت جلودنا، لا يستطيع الكاتب أن يستخدم لغة هادئة، وكلمات رقيقة، لوصف أشرس حرب عرفها شعب.
(حاليا نشهد تكرر هذه الشراسة، في حروب وحرائق تشتعل في شتى أرجاء الكون) لكننا، للأسف، كنا التجربة الاولى، وصرنا المثل والقدوة.
لاحظت أنني في قصصي القصيرة عن الحرب، اعتمدت الواقعية، والصراخ المباشر وكأنما الوقت، لايتسع للتغني بفنون الكتابة، وهو يلح على الكلمات لتخرج، وتقف في مواجهة الرصاص والقنابل، بل اني، في احدى القصص، استعرت الرصاصة لأكتب بها القصة. وفيما كنت اكتب تجربة الآخرين، وأحاول رسم قسوتها، كنت اجرب نفسي وقلمي، الى أي حد يمكننا الاستمرار والصمود.
واني بكل تأكيد، لم أكتب سوى جزء صغير من تجربة عشتها، ولاتزال تتمدد في كياني، وخلفيات ضميري، لتصبح هي الكيان، وهي الدافع الذي يحثني على المضي في الكتابة.. بل الشهادة على الحرب، وعلى الانسان.
س: من مؤلفاتك التي ترجمت الى اللغة الالمانية مؤلف "طيور أيلول" ثم "الاقلاع عكس الزمن" فما حكاية هذه الترجمة.. وهل ترجمت لك كتب الى لغات اخرى؟
ج: ترجم "الاقلاع عكس الزمن" الى الانكليزية سنة 1987 في كندا، ثم ترجم "طيور ايلول" بعد سنة في سويسرا والى اللغة الالمانية، وقبل شهور تبعه "الاقلاع عكس الزمن" بالالمانية، وعن نفس الدار. وقريبا ستصدر لي مجموعة قصص مترجمة الى الانكليزية تحت عنوان: "بيت ليس لها".
بالمناسبة، اني مدعوة في اوائل شهر نيسان الى ندوة ادبية في برلين، حول الأدب كوسيلة تحرير للمرأة في العالم العربية، وفي الوقت نفسه، احضر حفلة توقيع الترجمة الالمانية للاقلاع.
ولماذا الترجمة؟.. لا املك جوابا أكيدا، فأنا من جيل كان يقرأ ترجمات الاداب العالمية الى العربية – أي اني أعي اننا كنا نتلقى، ونكتسب. ولم أحلم يوما بأن عملاً كتبته، قد ينقل الى لغات اخرى، لأن خطابي هو لقارئ لغتي.. العربية. بالطبع تفرحني الترجمة، إذا تنقل الى الآخرين مفهوما عن حضارتنا وقيمنا التي شوهتها أخبار الحرب والقتال.
وهنا استدرك فأقول: ربما بسبب ما يجري في لبنان، والعالم العربي من حروب، وتصارع قوى، تنامى هذا الشوق لمعرفة أكثر للإنسان، واسلوب عيشه، ولقائه وافتراقه مع حضارات الآخرين.
واضيف أن ارتفاع جسور اللغات، عبر الترجمة الادبية يقرب بين الناس، على اختلاف حضاراتهم، ويجعلهم يكتشفون، كم يستطيع الانسان أن يكون قريبا بل أخاً للإنسان.
س: هل هنالك مؤلفات جديدة؟
ج: اعتبر أن كل ما نشرته حتى الآن، سابقا لتجربة التي اعيشها منذ أربع سنوات، أي منذ بدأت اقسم وقتي بين لبنان ومصر، واحيانا كندا، اذا نظرت الى هذه الحالة بالمنظار الايجابي، احسبها هبة جديدة تهبني اياها الحياة كي اتعلم، واختبر، ما يعيشه الوف المواطنين، ان كانوا لبنانيين، أو من أوطان عربية اخرى.. بل ما يعيشه انسان هذا العصر، الحامل بيته فوق ظهره، وفي داخله من سَلَم من افراد العائلة.
أما اذا نظرت الى الموضوع بالمنظار السلبي، فاني أرى المساحات القاحلة التي خلفتها بعد عبوري بسبب الصدمة التي يحدثها التحول، وتبدل الاجواء، والبعد عن الجذور، والذي اكتبه ابقيه في المسوّدة الاولى، بانتظار ان انقحه، واعيد كتابته، لدى استقرار الحال، لكني لم أكتب كل ما يخطر في بالي، من اجواء الحرب، اكتب للكبار كما للاولاد، في هذه الآونة، أفكر كثيرا بالكتابة للصغار، وعندي لهم بعض الاعمال الروائية. وانتظر خلال السنة الحالية، أن تصدر لي مجموعة قصص قصيرة، والجزء الثالث من كتاب غير روائي عن "نساء زائرات" وقد صدر منه جزءان قبل بضع سنوات.
س: هل هناك احتمال بأن تزورنا املي نصر الله في استراليا؟ إذ بعد نيلك جائزة جبران العالمية، التي تساعد على ربط الأدب العربي المهاجر، بالأدب العربي المقيم، اعتبرك القارئ العربي في استراليا جزءاً لا يتجزأ من نهضتنا الادبية، فما هو شعورك تجاه ذلك؟
ج: أما بصدد زيارتكم في استراليا، فاني أتمنى أن تتاح لي الفرصة في وقت قريب للقيام بتلك الزيارة للتعرف على اهلنا في هذا المهجر، خصوصا بعد نيلي جائزة جبران، التي كان لمغتربنا هناك، الفضل في انشائها، وتسجيل مبادرة ثقافية رائعة.
وانا مؤمنة بضرورة ربط الادب المقيم بالمهاجر، ليتنسّم الأول نسائم جديدة ترفده بالجدة والحيوية، وليعمّق الثاني جذوره بالتربة الأصلية. لكن سفري وتنقلي، في السنوات الاخيرة، كانا في الغالب مرتبطين بواجبات، وندوات أدبية، أو قراءات من اعمالي العربية او المترجمة. والى ان نلتقي في مناسبات اخرى، اتمنى لنهضتكم الادبية التوفيق والازدهار، وللرابطة الكريمة شكري وتقديري على ما تقدمه من جهد في سبيل تخليد اقلامكم وانتاجكم بمثلما خلد ادبنا المهجري من اميركا قلم جبران ومجموعة من ادباء المهجر الذين نفخر بانتاجهم.
نيسان 1992
أكتب للكبار كما للصغار وأعي هموم الاغتراب عن الوطن...
عُرف قلم الأديبة اللبنانية الكبيرة املي نصر الله بالسلاسة ورقّة المشاعر، وأكبر دليل على ذلك كتابها "طيور أيلول". ومن أشهر ما كتبت كتاب "الاقلاع عكس الزمن" وهو كتاب يصوّر مأساة الهجرة اللبنانية، وحياة المهاجر اللبناني وهو يترك بلده الذي يحبه، وبيئته التي تعرف قدره، ويهاجر مضطراً، بعد أن يعجز وطنه عن توفير الحياة الكريمة له ولأسرته، ليبحث عن الرزق وعن المستقبل الأفضل، وأديبتنا قد اتحفت – الى جانب ذلك – المكتبات العربية بباقة من مؤلفاتها التي تعالج كل ما يحتاج الى علاج من مآسي الوطن ومشاكل الانسان اللبناني في الغربة وفي المجتمع وفي الاغتراب، وتتحدث عن الضغوط الاجتماعية ومشاكل المرأة بأسلوب سلس قلّ وندر، رافقها منذ أن كانت تعمل في الصحافة لمدة خمسة عشر عاماً. وقد بدأت مؤلفاتها تنتشر في الوطن العربي وفي مواطن الاغتراب اللبناني وترجم بعضها الى اللغات الاجنبية.
والاديبة املي نصر الله تعيّش القارئ على كتف الوادي، وقرب الشلال، وفي حقول التين والزيتون، وبين الثلوج في لبنان وكندا.. ووراء الابواب الحديدية في بيروت، وبين دوي القنابل، وفي سيناريوهات ومسرحيات من كل لون وشكل، ولكنها تحتفظ بأن تعرض هذه السيناريوهات من خلال مسارح الانسانية ضمن اهتمامات المواطن اللبناني ووطنه لبنان.
وفي لقائي مع الأديبة في القاهرة سنة 1992 دار بيننا الحديث التالي:
س: سيدة املي، لقد عرفتك من خلال بعض مؤلفاتك القيمة التي تصلنا الى استراليا، وعرفتك الجالية العربية أيضا من خلال الاحتفال بجائزة جبران الادبية العالمية التي منحتها لسيادتك رابطة إحياء التراث العربي لعام 1991، فماذا كان شعور الاديبة املي نصر الله وهي تتسلم الجائزة اللبنانية من إحدى الجاليات اللبنانية في الاغتراب.
ج: يسعدني جدا أن أعرف، بأن الجالية العربية في استراليا لها هذا الاهتمام الادبي الحضاري. إذ اعتدنا فكرة أن المهاجر يشغل الناس بهموم العمل، التجارة، الصناعة وشتى الاعمال التي تخطف المرء من كل شأن ليست له علاقة مباشرة بالتيار الذي، لقوته وإلحاحه، يجرف الجميع.
وقد تأثرت شديد التأثر حين علمت بنبأ منحي جائزة جبران العالمية، وهو من الكتاب الذين أحبهم، وأعود الى قراءته مثلما يعود الظامئ الى الينبوع النقي، أو مثلما يعود المؤمن الى تلمس مكان يقدّسه. وثانياً لأنها الجائزة الأولى التي تأتيني من خارج لبنان، وفي ذلك إشارة الى توسع رقعة انتشار أدبنا في دنيا الاغتراب، ودليل وعي عام بين أهلنا في المغترب لأهمية الوجه الثقافي من تراثهم وحضارتهم.
ولا أفشي سراً إذا قلت بأن الكاتب، بينما ينصرف الى بناء قصته، أو قصيدته، في عزلة تامة، يفرحه أن يتلقه أصداء تعوده من شتى الجهات، حاملة التقدير لعمله، وفرحة المشاركة بولادة جديدة، وقد بلغت تلك العزلة أوجها إبّان الحرب الطويلة في لبنان، وتابعنا الكتابة، والشهادة لما يجري، دون أن يكون لنا أمل كبير بأن الصوت قد يتخطى سقوف الملاجئ التي تأوينا، واليوم بدأنا نحس بأن ذلك الإصرار على المضي في العمل بدأ يؤتي ثماره، ويلفت الانتباه. بل أن جزءاً منه بات أساساً لدراسات أكاديمية تنشر في الوطن العربي وخارجه.
س: وأشير بكثير من الفخر، الى أن، قلم المرأة كان متوهج الحضور واعياً تمام الوعي الدور المنوط به، والمسؤولية الملقاة على عاتقه.
ج: نعم، عشت ولا أزال أعيش هموم الاغتراب عن الوطن، وقد بدأت قصتى مع الهجرة والرحيل قبل أن أخطو أو خطوة خارج حدود القرية. ذلك لأنني فتحت عيني، في مجتمع اعتاد أهله على السفر.. فحين تروي الجدات حكاياتهن في ليالي الشتاء الطويلة، تكون الحكاية مضخمة بشذى العوالم الغامضة، وحين تعد الأم ابنها بوعود المستقبل المشرق، وتبسط بين كفيه علامات الغد، تشير بأصبعها نحو الأفق الغربي، حيث عبرت قبله قوافل الراحلين.
لكني ولأسباب فهتمها فيما بعد، نفرت من هجرة الوطن، وان بقيت تائقة الى نقلة تحملني الى المدينة الواعدة بمستقبل أفضل.
أما تلك الأسباب التي ولدت في نفسي ردود فعل سلبية تجاه المهجر، فهي الرسائل الواردة الى جو هادئ راكد هو جو القرية، فتهز جذوره بقسوة مشوبة بالغموض والرهبة.
كان لأنباء الموت أو المرض في الأماكن البعيدة أثرها العميق المؤلم، نقرأه في عيون الأمهات والآباء، ونسمعه في العويل اليائس العدمي، تنقله الرياح والعواصف، وتخبئه في عباب الأودية، ليرتد إلينا، في الليالي الكئيبة المظلمة، صرخات مرعبة تخترق حواسنا حتى أعماق الكيان.
هذه الصورة القاتمة، راحت تتوسع في ذهني، ولم تترك مكاناً لصور أخرى أكثر بهاء واشراقا، تحملها الرسائل عن نجاح الابناء في أعمالهم، في حياتهم العائلية، وفي انتصاراتهم، ربما، لهذا يغلف قصصي ورواياتي غلاف حزين. ربما لأني لم أعش فترة طويلة في الاغتراب، غلبني الارتداد الى المطارح المهجورة وبقايا احزانها.
وقد عدت الى موضوع الاغتراب في "الاقلاع عكس الزمن" وقد انقضى على معالجته في "طيور ايلول" قرابة العشرين سنة. ولم يعد الجو مسربلا بالشوق والحنين، بقدر ما هو غارق في آلام الحرب، محترق بلظى نيرانها، وبالطبع كنت قد سافرت وتعلمت عن احوال الغيّاب، ما لم يكن متوافرا لي حين كتبت الرواية الاولى. وتعلمت قسوة الزمن حين يجور على الانسان ويقتلعه من جذوره في خريف العمر، وفي حين يعد نفسه للراحة والنعاس الأخير، فوق صدر الأرض التي أرضعته خيراتها. وفي كلا الحالين، كان معيني، تجربة شخصية، تناغمت وتزامنت مع تجارب ألوف المواطنين الذين اضطروا الى النزوح عن أوطانهم، إما هرباً من خطر الموت، أو توقاً الى الانضمام الى أحباء أبعدتهم الحرب، ثم وضعت دون عودتهم شتى العقبات.
س: في كتابك "طيور أيلول" معالجة هادئة وعميقة لحياة المرأة اللبنانية في القرية الجنوبية، فهل انها في نظرك، أقل حظاً من المرأة اللبنانية في الوطن ككل؟ وما سبب تأثرك بها؟
ج: لم أقصد معالجة موضوع يخص امرأة بالذات، لا في الجنوب ولا في الشمال. لكني ولدت في قرية جنوبية (الكفير) ونشأت فيها نشأتي الأولى، وتشربت تراثها وتقاليدها، وعادات أهلها، فكان من الطبيعي، ان أكتب عنها، حين باشرت الكتابة، وفي يقيني، أن صورة هذه المرأة تتكرر في شتى القرى والبلدات الريفية، خصوصا في الفترة الزمنية التي اخترتها.
وان كان هناك من معاناة خاصة للمرأة الجنوبية، فهي في عيشها الدائم على خط النار، وعدم الاستقرار.
ورواية "طيور أيلول" لا تعالج هذه الحالة، بل تصفها في فترة زمنية تسوق فيها حياتها العادية التقليدية. وذلك انسجاماً مع الزمن الذي تدور الاحداث في حدوده.
س: في كتابك الأخير "خبزنا اليومي" صرخة ألم حادة من قلم تعوّد الرقة ورهافة العبارة، فهل كان هذا من فعل روائح البارود، ودوي القنابل، أم مجرّد تصوير لمأساة الانسان اللبناني التي بلغت الذروة، فأفقدته قيمه الاسنانية والحضارية؟
ج: إن تحوّلاً أكيداً حدث في سياق الكتابة الناتجة عن الحرب، نعم، هناك صرخات حادة، صرخات ألم، وغضب واحتجاج، وقد تفجرت في هذه القصص مثلما كانت تتفجر القذائف فوق رؤوسنا، بل تحت جلودنا، لا يستطيع الكاتب أن يستخدم لغة هادئة، وكلمات رقيقة، لوصف أشرس حرب عرفها شعب.
(حاليا نشهد تكرر هذه الشراسة، في حروب وحرائق تشتعل في شتى أرجاء الكون) لكننا، للأسف، كنا التجربة الاولى، وصرنا المثل والقدوة.
لاحظت أنني في قصصي القصيرة عن الحرب، اعتمدت الواقعية، والصراخ المباشر وكأنما الوقت، لايتسع للتغني بفنون الكتابة، وهو يلح على الكلمات لتخرج، وتقف في مواجهة الرصاص والقنابل، بل اني، في احدى القصص، استعرت الرصاصة لأكتب بها القصة. وفيما كنت اكتب تجربة الآخرين، وأحاول رسم قسوتها، كنت اجرب نفسي وقلمي، الى أي حد يمكننا الاستمرار والصمود.
واني بكل تأكيد، لم أكتب سوى جزء صغير من تجربة عشتها، ولاتزال تتمدد في كياني، وخلفيات ضميري، لتصبح هي الكيان، وهي الدافع الذي يحثني على المضي في الكتابة.. بل الشهادة على الحرب، وعلى الانسان.
س: من مؤلفاتك التي ترجمت الى اللغة الالمانية مؤلف "طيور أيلول" ثم "الاقلاع عكس الزمن" فما حكاية هذه الترجمة.. وهل ترجمت لك كتب الى لغات اخرى؟
ج: ترجم "الاقلاع عكس الزمن" الى الانكليزية سنة 1987 في كندا، ثم ترجم "طيور ايلول" بعد سنة في سويسرا والى اللغة الالمانية، وقبل شهور تبعه "الاقلاع عكس الزمن" بالالمانية، وعن نفس الدار. وقريبا ستصدر لي مجموعة قصص مترجمة الى الانكليزية تحت عنوان: "بيت ليس لها".
بالمناسبة، اني مدعوة في اوائل شهر نيسان الى ندوة ادبية في برلين، حول الأدب كوسيلة تحرير للمرأة في العالم العربية، وفي الوقت نفسه، احضر حفلة توقيع الترجمة الالمانية للاقلاع.
ولماذا الترجمة؟.. لا املك جوابا أكيدا، فأنا من جيل كان يقرأ ترجمات الاداب العالمية الى العربية – أي اني أعي اننا كنا نتلقى، ونكتسب. ولم أحلم يوما بأن عملاً كتبته، قد ينقل الى لغات اخرى، لأن خطابي هو لقارئ لغتي.. العربية. بالطبع تفرحني الترجمة، إذا تنقل الى الآخرين مفهوما عن حضارتنا وقيمنا التي شوهتها أخبار الحرب والقتال.
وهنا استدرك فأقول: ربما بسبب ما يجري في لبنان، والعالم العربي من حروب، وتصارع قوى، تنامى هذا الشوق لمعرفة أكثر للإنسان، واسلوب عيشه، ولقائه وافتراقه مع حضارات الآخرين.
واضيف أن ارتفاع جسور اللغات، عبر الترجمة الادبية يقرب بين الناس، على اختلاف حضاراتهم، ويجعلهم يكتشفون، كم يستطيع الانسان أن يكون قريبا بل أخاً للإنسان.
س: هل هنالك مؤلفات جديدة؟
ج: اعتبر أن كل ما نشرته حتى الآن، سابقا لتجربة التي اعيشها منذ أربع سنوات، أي منذ بدأت اقسم وقتي بين لبنان ومصر، واحيانا كندا، اذا نظرت الى هذه الحالة بالمنظار الايجابي، احسبها هبة جديدة تهبني اياها الحياة كي اتعلم، واختبر، ما يعيشه الوف المواطنين، ان كانوا لبنانيين، أو من أوطان عربية اخرى.. بل ما يعيشه انسان هذا العصر، الحامل بيته فوق ظهره، وفي داخله من سَلَم من افراد العائلة.
أما اذا نظرت الى الموضوع بالمنظار السلبي، فاني أرى المساحات القاحلة التي خلفتها بعد عبوري بسبب الصدمة التي يحدثها التحول، وتبدل الاجواء، والبعد عن الجذور، والذي اكتبه ابقيه في المسوّدة الاولى، بانتظار ان انقحه، واعيد كتابته، لدى استقرار الحال، لكني لم أكتب كل ما يخطر في بالي، من اجواء الحرب، اكتب للكبار كما للاولاد، في هذه الآونة، أفكر كثيرا بالكتابة للصغار، وعندي لهم بعض الاعمال الروائية. وانتظر خلال السنة الحالية، أن تصدر لي مجموعة قصص قصيرة، والجزء الثالث من كتاب غير روائي عن "نساء زائرات" وقد صدر منه جزءان قبل بضع سنوات.
س: هل هناك احتمال بأن تزورنا املي نصر الله في استراليا؟ إذ بعد نيلك جائزة جبران العالمية، التي تساعد على ربط الأدب العربي المهاجر، بالأدب العربي المقيم، اعتبرك القارئ العربي في استراليا جزءاً لا يتجزأ من نهضتنا الادبية، فما هو شعورك تجاه ذلك؟
ج: أما بصدد زيارتكم في استراليا، فاني أتمنى أن تتاح لي الفرصة في وقت قريب للقيام بتلك الزيارة للتعرف على اهلنا في هذا المهجر، خصوصا بعد نيلي جائزة جبران، التي كان لمغتربنا هناك، الفضل في انشائها، وتسجيل مبادرة ثقافية رائعة.
وانا مؤمنة بضرورة ربط الادب المقيم بالمهاجر، ليتنسّم الأول نسائم جديدة ترفده بالجدة والحيوية، وليعمّق الثاني جذوره بالتربة الأصلية. لكن سفري وتنقلي، في السنوات الاخيرة، كانا في الغالب مرتبطين بواجبات، وندوات أدبية، أو قراءات من اعمالي العربية او المترجمة. والى ان نلتقي في مناسبات اخرى، اتمنى لنهضتكم الادبية التوفيق والازدهار، وللرابطة الكريمة شكري وتقديري على ما تقدمه من جهد في سبيل تخليد اقلامكم وانتاجكم بمثلما خلد ادبنا المهجري من اميركا قلم جبران ومجموعة من ادباء المهجر الذين نفخر بانتاجهم.
نيسان 1992