ظاهرة صحافة الدولار

نجاة فخري مرسي

لا يستطيع الكاتب بعد كل هذا الفيض الإعلامي، من مقروء ومرئي ومسموع، بعد حادث مقتل الاميرة البريطانية الشابة ديانا سبنسر، وانعاكاساته على الرأي العام البريطاني والعالمي، إلا أن يساهم ولو بقدر من الحديث مع المتحدثين.
وأنا هنا في استراليا كفرد من أفراد المجتمعات العالمية التي شاهدت وسمعت وقرأت ما قيل ومازال يقال في هذا الموضوع، أجد الحديث عن هذا الحادث الانساني المروع ذا شجون، لأن التكهنات كثيرة، وحيثيات الحادث كثيرة أيضاً، وهي الآن في يد القضاء، وأصبحت لا تخصنا، أو بالأحرى ليست من اختصاصنا، والذي يخصنا في الموضوع، وفي مثل هذه الأحوال التي كشفت النقاب عن أمور كثيرة، هي حرية الفرد وخصوصياته في المجتمعات الحديثة، التي بدأ الدولار يحكمها .. ثم في سلوك الصحافة بالنسبة لهذه الأمور، وسأحصر كلامي في الجانب الصحافي، وفي ظاهرة صحافة الدولار في الغرب.
تعريف الصحافة:
تنتهي أكثر دراسات علم الصحافة عند القول إن الصحافة رسالة قبل أن تكون مهنة .. وفي أماكن أخرى مثل كتاب الدكتور خليل صابات: (الصحافة مهنة ورسالة) تجمع بين الاثنين، علماً بأنه لا يوجد تعريف دقيق للصحافة .. فبعض الباحثين يعتبرها حرفة، وبعضهم الاخر يعرّفها بأنها فن.. في حين يؤكد المثاليون أنها رسالة قبل كل شيء.
والصحافة، بعيداً عن هذه الاعتبارات، استعداد طبيعي، ثم هي فن وعلم ورسالة، لعلاقتها الوثيقة بالفكر والعقل وستبقى في مقدمة وسائل التثقيف.
نخلص من هذه الآراء، بأن الصحافة يجب أن تكون رسالة في الدرجة الأولى، ورسالة ذات خلق، بل التزامات خلقية وتثقيفية، لأن تمتعها بصلاحيات وحريات كبيرة في هذا الاطار يضعها في موضع المسؤولية، لكي تحتفظ بمقامها كسلطة رابعة في المجتمعات الانسانية المتحضرة.
ولكن الطامة الكبرى اذا انحرفت عن مسارها الرسولي والحضاري هذا، واخذت تستعمل سلطتها فيما يضر بهذه المجتمعات الانسانية، أو يكشف أسرارها، والقضاء على خصوصياتها من أجل الدولار.
والمصيبة الأكبر إذا تحولت الى تجارة، والى وسيلة لجمع المال بإثارة الغرائز، ومطاردة المشاهير، كما تفعل، اليوم، بعض المجلات في الغرب، بما تنشره من صور الابتذال على صفحاتها الصفراء المتوفرة في الاسواق، وفي متناول الكبير والصغير من أطفال ومراهقين!
وحياة الاميرة البريطانية الشابة ديانا سبنسر مع صحافة الغرب أكبر دليل على هذا الانحراف الخطير، بعد أن جعلوها تعيش شبابها مطاردة من مصوري الصحف والشركات المتخصصة بشراء وبيع اللقطات المثيرة بمئات آلاف الدولارات، على حساب الحريات الفردية.
والأميرة ديانا كان يؤلمها أن ترى خصوصياتها مباحة على الصفحات الأولى من الصحف والمجلات، وأن لا تعطي لها كاميرات الصحف مساحة من الحرية تعيش فيها كباقي خلق الله. كانت ديانا تطالب دائماً بأن تبقى حياتها ملكاً لها، وليست مشاعاً لتجار اللقطات المثيرة: ماذا أكلت.. وكيف سبحت وكيف تنفست؟!.. فأفسدوا حياتها، واستباحوا خصوصياتها، وبالتالي يقال بأنهم كانوا سبباً، أو على الأقل طرفاً في القضاء على حياتها. فهل يرضي هذا يا ترى، صاحبة الجلالة الصحافة؟ أم أن لكل حصان كبوة.
إذا صح القول بأن مصوري الصحف كانوا سبباً أو طرفاً في إنهاء حياة الأميرة ديانا، قد يكون قد أصبح في الغرب، وخاصة في بريطانيا ما يسمّى بصحافة الدولار، وهذا ما يبعث على الأسف.
ولكن، في نفس الوقت، لا يستطيع أحد أن ينكر أن عدسات الصحافة ايضا، وربما الملتزمة منها، وبصورة عامة، كانت السبب في شهرة الأميرة ديانا، وتعريف العالم على شخصيتها القوية التي استفادت من المحن فتحدّت القيود الملكية، وتحولت من أميرة يفترض أن تعيش محنطة وراء اسوار القصور وجدرانها، تتحرك بحساب، وتتحدث بحساب، الى شابة انسانة تستطيع أن تساهم بقدر كبير في الحد من المآسي الانسانية في البلاد الفقيرة، فساعدت المرضى والاطفال والمعوقين، وأظهرت بذلك الملكية على حقيقة وجودها العقيم، واستحوذت على حب الملايين، فتوجت نفسها مليكة للقلوب، كما أرادت، وبالتالي تحدت طليقها، وانتصرت عليه بحياتها ومماتها.. ومرة ثانية وثالثة لعب الاعلام دوراً هاماً في نشر هذا النصر، يوم تشييع جثمانها، وجنازتها التي اعتبرت أكبر جنازة شهدتها بريطانيا، محاطة بدموع وقلوب الملايين من المشيعين. فكبرت علامة الاستفهام، وكثر التساؤل: لماذا تحتاج انجلترا الى أسرة مالكة بعد أن أصبحت موصومة بالسلبية وصرف الاموال، دون فعالية تذكر؟ ولماذا تحتاجها استراليا أيضاً الآن؟!
نعم لقد انتصرت ديانا على الأسرة المالكة مرتين، في حياتها وفي مماتها، وأصبحت بذلك تقتسم الفضل في هذا النصر مع الصحافة التي طالما اشتكت منها. وصدق من قال: (كثيراً ما يأتي الخير من الشر) أو (ربّ ضارّة نافعة)..
ولعل صاحبة الجلالة الصحافة تعود بكامل فروعها الى رسالتها الرسولية والاخلاقية فتخفف من حمى مرتزقة الصور، وتحدّ من أسعارهم ومن أدوارهم.


"نشرت هذه الكلمة في مجلة ليلى عام 1997"