مسكين رمضان ـ الجزء الثاني

نجاة فخري مرسي
إستأنفت بعدها كتابة تحقيقي الصحفي المطلوب، بعد جولة في "حي الحسين" و "خان الخليلي" و "مقهى الفيشاوي" حيث تُقام سرادق للفنّ والأكل والكتب والمكتبات جنباً إلى جنب، وحيث تُنصب المايكرفونات في الشوارع.
وعندما تسير في أي شبر من هذا الحي تجد مهرجانات غنائية.. وحلقات للذكر، فتجد صعوبة بالغة في شق طريقك وسط ازدحام الناس، من القاهرة، ومن الأرياف، ومن بينهم السوّاح والطلبة من الجامعات والمعاهد، وأعداد من المطربين والمطربات، والكل وافد لقضاء ليلة من ليالي رمضان الشهيرة، حتى الفجر.
الكل يسير، والكل يأكل ويشرب الشاي، والكل يأخذه الطرب ويتمايل على أنغام الموسيقى الشعبية. فهنا جماعة "تُفقّر" وهنا جماعة تبيع البخور، وهنا مطاعم تُقدم "النيفة"، ومطاعم تقدم "الكباب المشوي" ومطاعم متخصصة بالحمام المحشي، وموائد الأكل منتشرة في الشوارع والممرات، والحي مزدحم بالروّاد والزائر جالس في هذه الممرات الى تلك الموائد يأكل، والناس تمرّ من حوله وتنظر إليه وهو في منتهى الأنس والإنسجام، ولا ينوي التوقّف أو الذهاب حتى ساعة "الإمساك" عن تناول الأكل عند الفجر، والذهاب إلى المسجد لتأدية صلاة الفجر، ثم العودة إلى منزله كي ينام.
وفي هذه المهرجانات يتردد إسم الإمام الحسين "مَدَدْ يا حسين، واسم السيدة زينب "مدد يا اُمُّ هاشم" حتى الصباح.
أمّا خان الخليلي فهو المقر للصناعات المصرية الفضّية والجلدية، والفرعونية التي تجذب السائح، وتسوّق المصنوعات اليدوية.
أمّا قهوة "الفيشاوي" الشهيرة والتي أكل الدهر عليها وشرب، فهي ما زالت تتحدّى بشيشتها القديمة وشايها الأخضر، وطابعها الشرقي القديم، وبيوت العنكبوت التي تغطي نصف سقفها، وحيطانها، أحدث المقاهي وأحلاها، لما عُرف عنها من ملتقى الأدباء والشعراء والمفكّرين في مصر، وكم ألفوا، وكم أنتجوا "فكرياً" بين جدرانها.
تخرج من هذا الحي العجيب، ورأسك يدور، وخياشيمك مشبعة بروائح الأكل والبخور، والبهارات والعطور، وعيونك زائغة من كثرة الزحام، لتجد نفسك ثانية في سوق للكتب، مكوّن من خيام عديدة، فوق كل خيمة إسم لمؤسسة ثقافية، أو مكتبة أو دار نشر.
والغريب أن كل هذا ينتهي بانتهاء رمضان، وتعود المياه إلى مجاريها.
والحقيقة تُقال أن كل ما رأيته في هذه الزيارة، وكل ما شاهدته كان غريباً ونادراً، ويتحدث عن جانب من التُراث، ولكنني للتأكد من ندارته، وختم هذا التحقيق، قمت في اليوم التالي بجولة على بعض الشخصيات كان أولها: السيدة وداد رشيد عالي الكيلاني (كريمة المجاهد العراقي المعروف) وسألتها إذا كانت توجد في العراق عادات رمضانية، تختلف عمّا ترينه في مصر؟ فكانت إجابتها: "أبداً لأن أكثر العادات العربية تقريباً واحدة، إلاّ أنه عندنا في العراق زي نسائي خاص أثناء التزاور في الشهر الكريم، وهو يرمز للحشمة والتقوى، إسمه: "الصايه البغدادي" و "الهاشمي" في البصرة.
أمّا العادات التي تتعلق بالمأكولات والحلويات و "البشمرزات" التي تسمّى "الياميش" في مصر، وهي تقريباً واحدة. وأمّا بالنسبة للعائلية الرمضانية، فهي تُقام كل ليلة في بيت من بيوت الأصدقاء، تُقدم فيها سيدات المنزل العزف والطرب.
وفي أواخر الشهر الكريم يطوف المقرؤون على البيوت لقراءة الأدعية الدينية، ثم يبدأ الإفطار الجماعي، لضرورة مشاركة الناس في الطعام، وهم يودّعون الشهر الكريم.
سألت بعدها الشريف محمد شرف/سفير الأردن السابق في الهند والمقيم في القاهرة عن رأيه بالعادات الرمضانية في مصر، وهل إذا كانت توجد في الأردن عادات تختلف عنها؟
أجابني: "برأيي أن مصر تمثل الوجه الإسلامي الصحيح، إذ نجد فيها من العادات ما لا نجده في البلاد العربية الأخرى. والذي أعجبني ولفت انتباهي كظاهرة تاريخية كان حي الحسين، فعندما نسير فيه، نستوحي حالاً ما حدث في هذه البقعة على مرّ القرون والعصور، بعد الفتح الإسلامي من التقاء القوميات، والطوائف والأديان، من تقلّب ظروف المسلمين من أسياد إلى مسودين، والعكس".
وكان آخر سؤال للشيخ "عبد اللطيف دراز/وكيل الأزهر، وعضو مجلس أمة سابق، قائلة: أرجو أن تتكرّموا فضيلتكم بإعطائي لمحة عن أبرز العادات الرمضانية في مصر؟
فأجاب: "يسرني طبعاً أن أبدأ بالقول إن مصرنا، ظاهرة التعبير الصريح عن حبّ المصري لدينه، ولأهل بيت الرسول على المنابر، وبواسطة مكبّرات الصوت، وفي الشوارع، وفي كل المناسبات الدينية، وهذا يدلّ على أن المصريين قد جمعوا بين الفضيلتين، بخلاف البلاد العربية الأخرى، التي ما زالت فيها الطائفية تلعب دوراً "خطيراً" فمنهم من يحب أهل البيت ومنهم من لا يحبهم مثلاً".
وأخيراً أستودعكم الله حتى رمضان آخر، وأذكّر أن الإفراط في الأكل والمأكولات تبذير (وان المبذّرون إخوان الشياطين) وكل رمضان وأنتم بخير.
ملبورن – أستراليا

مسكين رمضان

نجاة فخري مرسي
كتب هذا التحقيق في القاهرة عام 1962
مسكين رمضان، كم هو مظلوم، لقد أراده الله أن يكون شهر صيام وتقشف فحوّله بعض المسلمين، أو أكثرهم، إلى شهر الطيّبات. ماذا عساي أن أكتب عن شهر رمضان المبارك، هل أبدأ من حيث نزل فيه القرآن، أو أكتفي بسرد ما يجب أن يتحلى له من فضائل البذل والتقشّف، والمشاركة الروحية والإنسانية؟ والفوائد الصحيّة؟ أن أنطلق من وصف فوانيسه وسهراته وخيراته؟ أم أذكر وأذكر ما يسبّبه لميزانية كل أسرة من ربكة وخلل؟ أم أنني أتكل على الله، وأكتب ما يرضي ضميري، وأمانتي الصحفية دون مجاملة؟
إذن اسمحوا لي أن أترك حديث الفضائل لذوي الفضل من رجال الدين، والحسنات لمن أحسنوا الشعور بوجودها وتطبيقها، وأن أستئاذن رمضان في الدفاع عنه لأنه مظلوم، والدفاع عن المظلوم فضيلة، ثم أخاطب من أساؤا إلى تعاليمه واستغلوا وجوده الكريم، وحوّلوا فضائله إلى أزمات معويّة، واقتصادية، وصحية، وأحياناً إجتماعية.
رمضان في نظر المؤمن الواعي شهر التقشّف الروحي والجسدي.. وشهر المشاركة والإحسان.. ولكن أكثرنا حوّله إلى شهر "التخمة" وزيادة الوزن.. ومع ذلك نُغنّي: "يا رمضان يا شهر التوبة والفغران" ونعود ونردد: " يا حلاوة التين والقمردين".
قد يستغرب البعض ما أقول. ولكننا بعملية حسابية صغيرة نتبيّن قوة رمضان الشرائية التي تحسده عليها أشهر السنة الأخرى الاحدى عشر الباقية، في حين أنه كان يجب أن يكون شهر تقشّف واقتصاد، وأن يوفر للمسلم الصائم الراحة النفسية والصفاء الروحي، والقدرة على التصدّق والمشاركة، ومن ثمّ إسعاد أطفاله في فرحة العيد. وكذلك الراحة المعوية، والأجهزة الهضمية من كل ما علق بها من شحوم وتخمة وفضلات.
خرجت من مكتب رئيسي ومُدرّبي الأستاذ مرسي الشافعي مدير مجلة "المصوّر" المصرية في دار الهلال في القاهرة، وكلفت بعمل تحقيق صحفي عن رمضان وليالي رمضان، ومعي مصوّر المجلة، وبعض الأوراق على أن أعود وقد ملأتها واستهلكت ما في الكاميرا من أفلام مصوّرة لفوانيس رمضان الجميلة، وولائمه الكثيرة، وأوراقي مليئة بقصص وحكايات عن حلاوة ليالي رمضان وسهراته وخيراته ومكسّراته و "باميته".
ولكنني عدت وأوراقي مليئة بحكايات ومظاهر البذخ والإسراف، وكيف أن الناس في هذا المجتمع قد حوّلوا هذا الشهر الفضيل إلى شهر طيبّات وبذخ وإسراف، وزيادة وزن، وكيف قلبوا الآية، وعكسوا المفروض. ولا بدّ من عرض بعض الصور التي شاهدتها في بعض البيوت الكريمة، أوّلها منزل لاجئ سياسي كبير في إحدى الدول العربية الشقيقة، قابلته بوجود مفتي جمهورية وعضو مجلس أمّة سابق على قدر كبير من الوعي، كانت سفرته عامرة بأطباق وألوان عديدة من الأطعمة والفواكه والحلويات، والمكسّرات إذا حسبتها وأحصيتها لا تصدّق. أما البيت الثاني، فكان منزل مدرّس، يسكن في حي شعبي متواضع مكوّن من ثلاث غرف مقاس علب السردين، مكتظّة بالأثاث القديم المستهلك والعائلة مكوّنة من الأبوين وثلاثة أطفال.
كانت سفرة إفطاره مكتظّة بالأطعمة مثل شقته وفي وسطها خروف قد تمّ ذبحه في استقبال رمضان. وأعتقد أنهما صورتان كافيتان لجعل القارئ يشاركني الرأي في أن السفرة الأولى يمكنها أن تطعم أكثر من خمسين محروم من فضلاتها.
والسفرة الثانية يمكنها أن تكسو العائلة بملابس جديدة يوم العيد، أو أن تحسّن وضع الأثاث المستهلك بثمن خرافها المذبوحة في استقبال رمضان، وثم في وداعه يوم العيد. وفي كل الحالات أرجع وأقول مسكين رمضان كم هو مظلوم. والى اللقاء في الفصل الثاني الأجمل في رمضان "بحي الحسين"، وشارع "خان الخليلي".
ملبورن – أستراليا
في 24/9/2007

أيام زمان

نجاة فخري مرسي
من منّا لا يهمّه أن يعرف ما طمسته الأحداث السياسية المؤلمة من تراثنا العريق، يوم كانت لنا حضارات فاقت في حينها كل الحضارات الأدبية والثقافية، يوم كانت تتفوّق على العالم الذي أصبح يدّعي التحضّر اليوم، مع أنه لم يغيّر أسلوبه في القرصنة والإستعمار ، وإن يكن قد غيّر شكلها، من استعمال سيف يقتل به شخصاً أو بضعة أشخاص، إلى أساليب فتك ودمار تبيد المدن والعمران، وتقتل مئات الألوف في لحظات، ولا يهمّ أن يكون القاتل شجاعاً، لكن المهم أن يكون جباناً، يستطيع أن يضغط بأصبع آثم على زر في طائرة أو في باخرة أو في دبابة، فيقتل ما عجز عن قتله آلاف الشجعان والمحاربين في حروب قديمة، وطويلة.
في لقاء مع إذاعية معروفة ينطلق صوتها من محطة "صوت لبنان" في بيروت، كل خميس من أيام الأسبوع كان هذا اللقاء في مكتبها بصوت لبنان بتاريخ 16/5/1996. تحدثنا عن مسيرتها الإذاعية، التي بدأت في تقديم برنامج ما يطلبه المستعمون، تلاه برنامج تلفزيوني على الهواء، أصبح له عشاقه ثم يعاد بثّه في مجلة الصياد لأن أكثرها تراثي، فقال فيها الإعلامي المعروف سعيد فريحة صاحب مجلة الصياد، هذه العبارة التي شجعتني، والعبارة هي: "ليس من الضرورة أن تكون من كتبت عن نابليون بونابرت قد حضرت معاركه.. ولا من الضرورة أن تكون من تتكلم عن صلاح الدين قد عاشت في عصره".
ثم دار بيننا الحديث التالي:
س: لنفترض أنني قرّرت أن أقدّمك للمستمع العربي في استراليا، فهل يهمّك هذا؟
أجابت، طبعاً، طبعاً طبعاً"، وقدّمت لي شريط فيديو بصوتها وفيه حلقات برنامجها "أيام زمان" لتسمعه الجالية العربية في أستراليا.
نقلته بعد عودتي على الورق، ونشرته في أحد برامجي في جريدة "النهار" المهجرية الغرّاء تحت عنوان "أيام زمان" ثم احتفظت به في أرشيفي الصحافي.
وبينما كنت أبحث في هذا الأرشيف المليء بالذكريات والأفكار السياسية للمقارنة بين حاضرنا وماضينا، فوجدت فيما وجدت برنامج الصديقة والزميلة "أيام زمان" الذي يعود تاريخه إلى أواخر القرن العشرين.
رأيت أن أشرك القارئ في هذه المقارنة بين بيروت اليوم و "بيروت أيام زمان" وعن الأحداث الكثيرة التي قاست منها على مدى تاريخها الطويل الذي يصل بتقديرات الحفريات الجديدة إلى ستة آلاف سنة، وعن الغزاة وعن الحروب، والكوارث الطبيعية، وبالتالي عن ظلم أهلها لها بحروبهم الأهلية البغيضة، التي شوّهت جمالها، ودمّرت عمرانها.
ومع ذلك ظلت بيروتنا العريقة إلى عهد قريب، منتدى للأدب والفكر وبقيت نوّارة الشرق ودرّة الأوطان، وجميلة الجميلات، وستبقى بإذن الله.
وإلى اللقاء في العدد القادم في مجلة ليلى الألكترونية الغرّاء مع القسم الأول من : "بيروت أيام زمان".
ملبورن – أستراليا

غياب اتحاد ربّات البيوت في أستراليا

نجاة فخري مرسي
بعيداً عن السياسة
يؤرّق الشعب الأسترالي والعائلات الأسترالية هذه الأيام وحش إسمه غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار لأسباب غير مفهومة، وليس لها مبرّر.
لماذا غير مفهومة؟ لأن أستراليا قارّة كبيرة ومواردها الطبيعية كثيرة، وعدد سكانها قليل يكاد يتساوى مع مدينة واحدة من مدن بعض البلاد مثل القاهرة في مصر، ونيويورك في الولايات المتحدة.
والمفهوم من عامة الشعب هو أن يكون تعداد السكان أعلى من إمكانيات وانتاج وموارد القارّة الطبيعية، وأن تكون لضرائب محتملة، أو أن تكون ماكينات اليانصيب ونوادي القمار لم تصل بعد إلى دخل ولاية "مونت كارلو"، أو أن يكون المعروض أقل من المطلوب.. أو أن يرتفع سعر اللحمة في أستراليا "أمّ اللحوم" بسبب تقاعس الحكومة عن دعم الفلاّح لكي يتمكن من المنافسة مثل الصديقة أمريكا التي دعمت الفلاّح وشجّعت الإنتاج إلى أن سيطرت على السوق.
أو أن تكون البضائع المستوردة أغلى من البضائع الأسترالية، أو أن تكون أسعار البصل والثوم الصيني أغلى من البصل والثوم الأسترالي.
لكن، وللأسف فقد رست هذه المعادلات على عكس ذلك وأصبح سعر كيلو اللحمة في سوق الإستهلاك المحلّي أعلى وأغلى من سعرها في البلاد التي تستوردها من عندنا.
إذن فإن غلاء سعر اللحوم على المستهلك في استراليا لا مبرّر له وغلاء الفاكهة والخضار في استراليا لا مبرّر له ما دام المعروض أكثر من المطلوب..
ولولا الملابس الجاهزة المصنوعة في الصين لاستحال على محدود الدخل في أستراليا أن يشتري ملابسه بأسعار تناسبه..
ولولا ثوم وبصل الصين لأصبح من الصعب على الفرد العادي أن يشتري كيلو الثوم الأسترالي بعشرة دولارات أو أكثر.
وبعيداً عن السياسة، نقول لرئيس وزراء أستراليا الحالي الذي يحاول أن يشعر مع شعبه بتقديم "المنح للأطفال"، ولأول منزل" وأن يغيّر سياسته بعد أن خربت مالطة، وهلك المواطن من دفع الضرائب، والبطالة وأصبح نصف هذا الشعب يعيش على معونات اللاجئ والبطالة والشيخوخة، وملايين الدولة تذهب إلى دعم مشاريع الصديقة أمريكا في روبها، وإلى المنح والوعود التي تسبق الإنتخابات.
ملبورن – أستراليا

عودة إلى المطالبة بعقوبة الإعدام

نجاة فخري مرسي
بعد موجات الإجرام المؤرّقة التي تعاني منها المجتمعات البشرية وبعد تزايد مخاطرها يوماً بعد يوم، أصبح يتوجّب على الحكومات فتح الملفات، والحديث عن أهمية عقوبة الموت للحدّ من انتشار هذه الجريمة بهذه الأشكال المخيفة.
لقد أجرت إحدى القنوات التلفزيونية إستفتاءً شعبياً حول هذا الموضوع على إثر جريمة إعتداء مروّعة على شابّة بريئة في إحدى المدن الأسترالية، فجاءت النتيجة أن أكثر من تسعين بالمئة يحبّذون المطالبة بعقوبة الإعدام، وهذا يفسّر أن انتشار الإجرام قد حوّل المجتمع إلى غابة يصل فيها الإجرام إلى كل بيت ويطال الكبار والصغار، وحتى الأطفال، ممّا حوّل البيوت الآمنة إلى سجون مسوّرة، والمجرم الذي ألقي القبض عليه ينعم في سجن إنساني مريح، على حساب أبناء الشعب وحكومات الشعب.
لا نستطيع هنا أن نجزم فيما إذا كان إلغاء عقوبة الإعدام في الغرب هو الذي سبّب هذه الموجة من الإجرام، أم أن انتشار المخدّرات، أم أن الإثنين معاً، أم لأسباب أخرى.
المهم أننا بعملية حسابية بسيطة نجد أن إلغاء عقوبة الإعدام للمجرم الذي قتل، أو القاتل مثل مروّج المخدرات يسبّب الموت بالجملة يستدعي بناء المزيد من السجون، والمزيد من الأعباء المالية على الدولة، وعلى دافعي الضرائب من أبناء الشعب، وكل هذا لا ينهي المشكلة بل يزيدها استفحالاً، لأن المجرم سيبقى مجرماً، وموزّع المخدرات سيوزعها في السجن، وكثير منهم من يعتدي على بقية السجناء، وبذلك يكون إلغاء عقوبة الإعدام، قد قدّم الحياة للإنسان المجرم على حساب المواطن البريء، بل ويعقّد المشكلة، ويزيدها خطورة.
وأخيراً فإن الحسابات تلتقي جميعها عند نقطة واحدة، ألا وهي أن الحياة للمجرم معناها الموت للبريء. وقبل أن أدلي بدلوي، وأعطي رأيي بالثناء على قانون "السنّ بالسنّ، والعين بالعين" يكفي أن نسمع آراء أكثر من تسعين بالمئة من أفراد المجتمع الأسترالي وهم يطالبون بإعادة عقوبة الإعدام، لتخفيف الرعب في المجتمع، وعودة الأمان، وخوف الكبار على الصغار، والآباء على الأبناء، والإغتصاب والقتل والخوف على رجال البوليس، الذين هم حماة الأمن، بعد أن أصبح الخطر يهدّد حياتهم وحياة عائلاتهم.
تبقى نقطة إحتمال إعدام بريء بدافع الخطأ، وهذه النقطة قد شغلت بال العشرة بالمئة الباقية، وهي طبعاً نقطة إنسانية هامّة ولا يمكن الإستهانة بها، ولكن الإيمان بعدالة القانون، يقلل من احتمالات حدوثها.
ويكفي أن نعلم أن ستة من كل عشر نساء في العالم يتعرّضن للإغتصاب الجنسي، وربّما القتل للتغطية، أي أكثر من نصف المجتمعات النسائية، ويكفي أن نعلم أن المئات والآلاف من الأطفال من إناث وذكور قد اختطفوا وامتهنوا وقطعت أوصالهم ودُفنوا.. وأن ملايين البيوت والبنوك، والمحال التجارية قد كسرت وسرقت، وأن خطر الإجرام قد تسلل إلى جوانب حياة الإنسان والحياة الإنسانية وهذا يستدعي المطالبة مع المطالبين بإعادة عقوبة الإعدام.
ملبورن – أستراليا