نجاة فخري مرسي
إستأنفت بعدها كتابة تحقيقي الصحفي المطلوب، بعد جولة في "حي الحسين" و "خان الخليلي" و "مقهى الفيشاوي" حيث تُقام سرادق للفنّ والأكل والكتب والمكتبات جنباً إلى جنب، وحيث تُنصب المايكرفونات في الشوارع.
وعندما تسير في أي شبر من هذا الحي تجد مهرجانات غنائية.. وحلقات للذكر، فتجد صعوبة بالغة في شق طريقك وسط ازدحام الناس، من القاهرة، ومن الأرياف، ومن بينهم السوّاح والطلبة من الجامعات والمعاهد، وأعداد من المطربين والمطربات، والكل وافد لقضاء ليلة من ليالي رمضان الشهيرة، حتى الفجر.
الكل يسير، والكل يأكل ويشرب الشاي، والكل يأخذه الطرب ويتمايل على أنغام الموسيقى الشعبية. فهنا جماعة "تُفقّر" وهنا جماعة تبيع البخور، وهنا مطاعم تُقدم "النيفة"، ومطاعم تقدم "الكباب المشوي" ومطاعم متخصصة بالحمام المحشي، وموائد الأكل منتشرة في الشوارع والممرات، والحي مزدحم بالروّاد والزائر جالس في هذه الممرات الى تلك الموائد يأكل، والناس تمرّ من حوله وتنظر إليه وهو في منتهى الأنس والإنسجام، ولا ينوي التوقّف أو الذهاب حتى ساعة "الإمساك" عن تناول الأكل عند الفجر، والذهاب إلى المسجد لتأدية صلاة الفجر، ثم العودة إلى منزله كي ينام.
وفي هذه المهرجانات يتردد إسم الإمام الحسين "مَدَدْ يا حسين، واسم السيدة زينب "مدد يا اُمُّ هاشم" حتى الصباح.
أمّا خان الخليلي فهو المقر للصناعات المصرية الفضّية والجلدية، والفرعونية التي تجذب السائح، وتسوّق المصنوعات اليدوية.
أمّا قهوة "الفيشاوي" الشهيرة والتي أكل الدهر عليها وشرب، فهي ما زالت تتحدّى بشيشتها القديمة وشايها الأخضر، وطابعها الشرقي القديم، وبيوت العنكبوت التي تغطي نصف سقفها، وحيطانها، أحدث المقاهي وأحلاها، لما عُرف عنها من ملتقى الأدباء والشعراء والمفكّرين في مصر، وكم ألفوا، وكم أنتجوا "فكرياً" بين جدرانها.
تخرج من هذا الحي العجيب، ورأسك يدور، وخياشيمك مشبعة بروائح الأكل والبخور، والبهارات والعطور، وعيونك زائغة من كثرة الزحام، لتجد نفسك ثانية في سوق للكتب، مكوّن من خيام عديدة، فوق كل خيمة إسم لمؤسسة ثقافية، أو مكتبة أو دار نشر.
والغريب أن كل هذا ينتهي بانتهاء رمضان، وتعود المياه إلى مجاريها.
والحقيقة تُقال أن كل ما رأيته في هذه الزيارة، وكل ما شاهدته كان غريباً ونادراً، ويتحدث عن جانب من التُراث، ولكنني للتأكد من ندارته، وختم هذا التحقيق، قمت في اليوم التالي بجولة على بعض الشخصيات كان أولها: السيدة وداد رشيد عالي الكيلاني (كريمة المجاهد العراقي المعروف) وسألتها إذا كانت توجد في العراق عادات رمضانية، تختلف عمّا ترينه في مصر؟ فكانت إجابتها: "أبداً لأن أكثر العادات العربية تقريباً واحدة، إلاّ أنه عندنا في العراق زي نسائي خاص أثناء التزاور في الشهر الكريم، وهو يرمز للحشمة والتقوى، إسمه: "الصايه البغدادي" و "الهاشمي" في البصرة.
أمّا العادات التي تتعلق بالمأكولات والحلويات و "البشمرزات" التي تسمّى "الياميش" في مصر، وهي تقريباً واحدة. وأمّا بالنسبة للعائلية الرمضانية، فهي تُقام كل ليلة في بيت من بيوت الأصدقاء، تُقدم فيها سيدات المنزل العزف والطرب.
وفي أواخر الشهر الكريم يطوف المقرؤون على البيوت لقراءة الأدعية الدينية، ثم يبدأ الإفطار الجماعي، لضرورة مشاركة الناس في الطعام، وهم يودّعون الشهر الكريم.
سألت بعدها الشريف محمد شرف/سفير الأردن السابق في الهند والمقيم في القاهرة عن رأيه بالعادات الرمضانية في مصر، وهل إذا كانت توجد في الأردن عادات تختلف عنها؟
أجابني: "برأيي أن مصر تمثل الوجه الإسلامي الصحيح، إذ نجد فيها من العادات ما لا نجده في البلاد العربية الأخرى. والذي أعجبني ولفت انتباهي كظاهرة تاريخية كان حي الحسين، فعندما نسير فيه، نستوحي حالاً ما حدث في هذه البقعة على مرّ القرون والعصور، بعد الفتح الإسلامي من التقاء القوميات، والطوائف والأديان، من تقلّب ظروف المسلمين من أسياد إلى مسودين، والعكس".
وكان آخر سؤال للشيخ "عبد اللطيف دراز/وكيل الأزهر، وعضو مجلس أمة سابق، قائلة: أرجو أن تتكرّموا فضيلتكم بإعطائي لمحة عن أبرز العادات الرمضانية في مصر؟
فأجاب: "يسرني طبعاً أن أبدأ بالقول إن مصرنا، ظاهرة التعبير الصريح عن حبّ المصري لدينه، ولأهل بيت الرسول على المنابر، وبواسطة مكبّرات الصوت، وفي الشوارع، وفي كل المناسبات الدينية، وهذا يدلّ على أن المصريين قد جمعوا بين الفضيلتين، بخلاف البلاد العربية الأخرى، التي ما زالت فيها الطائفية تلعب دوراً "خطيراً" فمنهم من يحب أهل البيت ومنهم من لا يحبهم مثلاً".
وأخيراً أستودعكم الله حتى رمضان آخر، وأذكّر أن الإفراط في الأكل والمأكولات تبذير (وان المبذّرون إخوان الشياطين) وكل رمضان وأنتم بخير.
ملبورن – أستراليا