نجاة فخري مرسي
كتب هذا التحقيق في القاهرة عام 1962
مسكين رمضان، كم هو مظلوم، لقد أراده الله أن يكون شهر صيام وتقشف فحوّله بعض المسلمين، أو أكثرهم، إلى شهر الطيّبات. ماذا عساي أن أكتب عن شهر رمضان المبارك، هل أبدأ من حيث نزل فيه القرآن، أو أكتفي بسرد ما يجب أن يتحلى له من فضائل البذل والتقشّف، والمشاركة الروحية والإنسانية؟ والفوائد الصحيّة؟ أن أنطلق من وصف فوانيسه وسهراته وخيراته؟ أم أذكر وأذكر ما يسبّبه لميزانية كل أسرة من ربكة وخلل؟ أم أنني أتكل على الله، وأكتب ما يرضي ضميري، وأمانتي الصحفية دون مجاملة؟
إذن اسمحوا لي أن أترك حديث الفضائل لذوي الفضل من رجال الدين، والحسنات لمن أحسنوا الشعور بوجودها وتطبيقها، وأن أستئاذن رمضان في الدفاع عنه لأنه مظلوم، والدفاع عن المظلوم فضيلة، ثم أخاطب من أساؤا إلى تعاليمه واستغلوا وجوده الكريم، وحوّلوا فضائله إلى أزمات معويّة، واقتصادية، وصحية، وأحياناً إجتماعية.
رمضان في نظر المؤمن الواعي شهر التقشّف الروحي والجسدي.. وشهر المشاركة والإحسان.. ولكن أكثرنا حوّله إلى شهر "التخمة" وزيادة الوزن.. ومع ذلك نُغنّي: "يا رمضان يا شهر التوبة والفغران" ونعود ونردد: " يا حلاوة التين والقمردين".
قد يستغرب البعض ما أقول. ولكننا بعملية حسابية صغيرة نتبيّن قوة رمضان الشرائية التي تحسده عليها أشهر السنة الأخرى الاحدى عشر الباقية، في حين أنه كان يجب أن يكون شهر تقشّف واقتصاد، وأن يوفر للمسلم الصائم الراحة النفسية والصفاء الروحي، والقدرة على التصدّق والمشاركة، ومن ثمّ إسعاد أطفاله في فرحة العيد. وكذلك الراحة المعوية، والأجهزة الهضمية من كل ما علق بها من شحوم وتخمة وفضلات.
خرجت من مكتب رئيسي ومُدرّبي الأستاذ مرسي الشافعي مدير مجلة "المصوّر" المصرية في دار الهلال في القاهرة، وكلفت بعمل تحقيق صحفي عن رمضان وليالي رمضان، ومعي مصوّر المجلة، وبعض الأوراق على أن أعود وقد ملأتها واستهلكت ما في الكاميرا من أفلام مصوّرة لفوانيس رمضان الجميلة، وولائمه الكثيرة، وأوراقي مليئة بقصص وحكايات عن حلاوة ليالي رمضان وسهراته وخيراته ومكسّراته و "باميته".
ولكنني عدت وأوراقي مليئة بحكايات ومظاهر البذخ والإسراف، وكيف أن الناس في هذا المجتمع قد حوّلوا هذا الشهر الفضيل إلى شهر طيبّات وبذخ وإسراف، وزيادة وزن، وكيف قلبوا الآية، وعكسوا المفروض. ولا بدّ من عرض بعض الصور التي شاهدتها في بعض البيوت الكريمة، أوّلها منزل لاجئ سياسي كبير في إحدى الدول العربية الشقيقة، قابلته بوجود مفتي جمهورية وعضو مجلس أمّة سابق على قدر كبير من الوعي، كانت سفرته عامرة بأطباق وألوان عديدة من الأطعمة والفواكه والحلويات، والمكسّرات إذا حسبتها وأحصيتها لا تصدّق. أما البيت الثاني، فكان منزل مدرّس، يسكن في حي شعبي متواضع مكوّن من ثلاث غرف مقاس علب السردين، مكتظّة بالأثاث القديم المستهلك والعائلة مكوّنة من الأبوين وثلاثة أطفال.
كانت سفرة إفطاره مكتظّة بالأطعمة مثل شقته وفي وسطها خروف قد تمّ ذبحه في استقبال رمضان. وأعتقد أنهما صورتان كافيتان لجعل القارئ يشاركني الرأي في أن السفرة الأولى يمكنها أن تطعم أكثر من خمسين محروم من فضلاتها.
والسفرة الثانية يمكنها أن تكسو العائلة بملابس جديدة يوم العيد، أو أن تحسّن وضع الأثاث المستهلك بثمن خرافها المذبوحة في استقبال رمضان، وثم في وداعه يوم العيد. وفي كل الحالات أرجع وأقول مسكين رمضان كم هو مظلوم. والى اللقاء في الفصل الثاني الأجمل في رمضان "بحي الحسين"، وشارع "خان الخليلي".
ملبورن – أستراليا
في 24/9/2007