المرأة والطناجر

نجاة فخري مرسي
- حوار خيالي "سُريالي" بين المرأة والطناجر

انتهت ربة المنزل من غسل الاطباق، وفرك الطناجر كالمعتاد، ثم جلست على أقرب كرسي، منهمكة متعبة "قرفانة"، ثم أخذت فوطة المطبخ وبدأت تنشف يديها ومعصميها، وتضع عليهما بعض "الكريم" المُرطب.
وجدت نفسها على غير عادتها في حوار "سُريالي" مع نفسها متسائلة: من الذي اختار لي هذه الوظيفة؟ ثم ثبّتني فيها دون أن يأخذ رأيي؟ فتحت عيني منذ نعومة أطفاري، لأجد جدتي وأمي خالتي وعمتي يقمن، بذات الوظيفة. يؤدين نفس العمل، في وظيفة أطلقوا عليها اسم "ربة المنزل" إغراء ورياء، وما هي في الحقيقة سوى وظيفة "خادمة المنزل" دون أجر، أو "كوادر"، أو علاوات، أو إجازات مرضية أو أسبوعية، أو سنوية، أو حتى تقاعد شيخوخة، الى أن أصبحت وكأنها قد صدر بحقها حكم مؤبد لا استئناف فيه، ولا تلطف في وقعه.
ثم تعود وتتساءل، أنا الطبيبة التي أمضيت نصف عمري في الدراسة والتخصص، ليصبح لي دور إجتماعي وإنساني، ويصبح عندي باب للمعيشة، وركيزة لكيان إقتصادي يحررني من أن أبقى عالة على رجل ما كأب، أو أخ، أو زوج، أو حتى إبن، ولكي أحتفظ بشخصيتي وقراري، وأعيش كإنسانة فاعلة في مجتمعها تؤمن بالمشاركة الواعية المبنية على أسس التكافؤ والتفاهم، والحب الحقيقي المتبادل.
كيف وجدت نفسي بعد كل هذا؟ وجدتها في ذات المركب مع أمي وجدتي، مع كل امرأة حُرمت من العلم، ومُنعت من الثقافة، وحكم عليها بالجهل؟؟.
ها قد حُكم عليّ أن أعود من عيادتي، مهما عالجت من حالات مرضية ومهما كنت متعبة، أن أعود الى المطبخ أمارس فيه قدري، مهما سبب لي ذلك من إرهاق جسدي ونفسي، أمّا الطرف الآخر فهو يجلس متكاسلاً لتستجاب كل طلباته ورغباته، دون أدنى شعور بواجب المشاركة مع من تعدّ في قاموس الكائنات "انسانة" من لحم ودم وكيان.
ثم تستمر متسائلة: لماذا لا يكون لي الحق كأي طالب وظيفة أكبُرت هذه الوظيفة أم صغرت، فأستقيل من وظيفة "ربة المنزل" هذه أو أرفضها؟ أو أعتذر عن مزاولتها، عندما يبلغ بي الارهاق أو عندما أشعر بالظلم وبالغبن وعدم المساواة؟ فأنصرف الى عيادتي ومرضاي، ثم لماذا وألف لماذا؟؟
وهنا ينال منها الغضب وتتساءل بتكرار: من ذا الذي حكم علي بزمالة الطناجر؟ وتنظيف كل شيء في المنزل، حتى أرضيته وحمّاماته ومراحيضه، بذات الأنامل وذات الأيدي التي تجري العمليات الجراحية، وتعالج المرضى، وتمسح دموع الموجعين؟ ثم يسمونني بعد ذلك "ربة المنزل"، مع أنه يوجد دائماً "رب للمنزل" ولكنه يأبى أن يكون خادمه مثلي – كما أنه يصرّ دائما أنه وحده رب المنزل الفعلي الآمر الناهي، صاحب الحول والطول.
هل هي ضريبة الزواج، وبناء الأسرة؟
أم هي السياسة الحتمية لكوني أنثى؟ أم أنها قرارات مجلس أمن أزلية وأبدية تنصّ على تسليم قيادة المجتمع والمنزل لذوي العضلات الأقوى "لأرباب" لا ترحم، ولا تلتفت الى الاعتبارات الانسانية، والى التفوق الفكري قبل العضلات، أو على الاقل الى نعومة الأنامل ورقة المشاعر؟
تذكرت طبيبتنا ذلك القرار الامريكي الذي يتحدث عن نسبة الطلاق في
أمريكا، ويربطها بنسبة نجاح النساء الأمريكيات في وظائفهن فيقول ان 18% من المدراء في أمريكا من النساء، وان 60% ممن تشملهن نسبة 18% مطلقات أو مطلِقات، وذلك لكونهن ناجحات في مراكزهن الادراية على حساب مراكزهن "المطبخية".
وهنا سرحت بنظرها وهي ما زالت تجلس في ذات المكان وعلى ذات الكرسي تسترد أنفاسها، الى أن وقع نظرها على رفّ الطناجر المقابل، فتراءى لها أنه شديد الشبه بصفّ العساكر يحدّقون بها ولسان حالهم يقول: لماذا تنظرين الينا شزراً هكذا؟ لعلك كارهة لزمالتنا؟ مع أننا قد ألفنا رفقتك وزمالتك.
ثم عادت وتصورت نفسها في حوار مع هذه " الطناجر"، وانها سمعت "طنجرة الالمنيوم" وهي تقول: أنا آسفة يا دكتورة على ما أسببه لك من عناء أثناء فركي وتلميعي بعد كل طبخة تطبخينها...
وقالت طنجرة "التفال": أما أنا فسعيدة لأنني لا أسبب لك الكثير من العناء، ولا لأناملك الرقيقة الكثير من الفرك والدعك...
وقالت طنجرة "الستانليس ستيل": أما أنا فأقلهما إزعاجاً، لأنه بإمكانك أن تغسليني في ماكينة غسيل الأطباق الاتوماتيكية وبهذا لا أسبب لأناملك الرقيقة جفاف البشرة، ولا ليديك بروز العروق، كما تفعل طنجرة " الالمنيوم" لكثرة ما تحتاجة من فرك ودعك بالليف والسلك وبالمستحضرات الكيميائية الضارّة.
ثم صاح الثلاثة بصوت واحد: نحن نحبك يا دكتورة وقد ألفنا عشرتك، يعني (عشرة عُمر)، ومن أقرب الى "ربة المنزل" من "الطناجر"؟ إذ نحن بدونها لا تبقى للمنزل بنا حاجة.
وهنا تصورت نفسها تجيب هذه المجموعة المتنوعة من الطناجر و"الحلات" التي ملت رؤيتها وتنظيفها قائلة: ولكنني لا أحبكم، بل وأنتظر اللحظة التي تغربون فيها عن وجهي.
فأجابت الطناجر بصوت واحد: ولكن لماذا يا دكتورة؟ أنت تعلمين جيداً أننا ليس لنا ذنب فيما تعانين، فكيف فرضت عليك عشرتنا، كذلك فرضت علينا عشرتك.
وإذا كانت شهاداتك الجامعية العالية قد عجزت عن تحريرك من عشرتنا، من وظيفة خدمة المنزل، وزمالة الطناجر والصحون فنحن أيضاً لم تشفع لنا تكنولوجيا العصر من عذاب الفرك والدعك.
ثم تهيأ لها أن الطناجر قد خفضت أصواتها وهي تقول:
نحن مثلك يا دكتورة ضحايا، وُضعنا معك في قارب واحد، مثلنا من رُمي به في اليمّ بين الامواج المتلاطمة، حتى لا تسمع أصواتهم أو استغاثتهم.
ومرت بنا الايام والنيران تلهب قاعنا، والليف يُجرح أجسادنا والزمن يقول: "الحلل والطناجر، وربّات المنازل، الى أبد الآبدين، آمين".
وهذا يشعرنا أيتها الرفيقة، أن ما تلبسينه من خواتم وماس وياقوت، ما هو سوى مجرد وسيلة ينسيك بريقها ما آلت اليه بشرة يديك الناعمة من جفاف.
إنتفضت الطبيبة غاضبة وصاحت: أغربوا عن وجهي أنا أكرهكم، ولا أحب أن أراكم بعد اليوم إلا برغبتي وإرادتي.
وهنا سمعت الطناجر تقهقه وتتراقص فوق الرفوف وتقول:
لا، لا لا تغضبي أيتها الرفيقة المفضلة، ولا تطلبي منا أن نغرب عن وجهك، لأن مشكلتك ليست منا أو فينا، ولا ما في هذا الكون الكبير من حلل وطناجر وأطباق ومطابخ ومراحيض، وإنما مشكلتك نابعة من عجزك عن فرض إرادتك، ووضع قرارك بنفسك للتحرر من زمالتنا، ومن الأفضل لك ولنا أن نجدد دائماً معاهدة للتحرر من زمالتنا، ومن الأفضل لك ولنا أن نجدد دائما معاهدة الزمالة، ولا داعي للغضب أو التأنيب. وحاولي أن ترضي عنا، ما دام أصحاب القرار قد زوجوك لنا، وزوجونا لك تلك الزيجة الكاثوليكية التي لا طلاق فيها ولا انعتاق حتى الموت. وتأكدي أيتها الرفيقة العزيزة من أنك حتى وإن غزوت الفضاء جنباً الى جنب مع "أرباب المنازل" فإن مركبتك الفضائية ستهبط بك مباشرة في المطبخ، لتعدّي طعام العشاء قبل أن تسرع عدسات التلفزيون الى مقابلتك، والتحدث عن رحلتك البطولية الى الفضاء.
وفجأة تنبهت الدكتورة "ربة المنزل" من تصوراتها على صوت "رب المنزل" الحقيقي الذي ظهر فجأة وهو يصيح: أنا جائع، أين العشاء؟